تفسير سورة المسد
وهي مكية بإجماع.
قوله عز وجل:
تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد
روي في الحديث وأنذر عشيرتك الأقربين قال: يا ، ويا صفية بنت عبد المطلب ، لا أملك لكما من الله شيئا، سلاني من مالي ما شئتما، ثم صعد فاطمة بنت محمد الصفا فنادى بطون قريش: يا بني فلان، يا بني فلان ، وروي أنه صاح بأعلى صوته: يا صباحاه، فاجتمعوا إليه من كل وجه، فقال لهم: أرأيتم لو قلت لكم إني أنذركم خيلا بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، قال: إني نذير بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك اليوم: ألهذا، جمعتنا ؟ فافترقوا عنه ونزلت السورة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه
و"تبت" معناه: خسرت، والتباب: الخسار والدمار، وأسند ذلك إلى اليدين من حيث اليد موضع الكسب والربح وضم ما يملك، ثم أوجب تعالى عليه أنه قد تب، أي [ ص: 707 ] حتم ذلك عليه، وفي قراءة : "تبت يدا أبي لهب. وقد تب". عبد الله بن مسعود وأبو لهب هو عبد العزى بن عبد المطلب، وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن سبقت له الشقاوة. وقرأ ، ابن كثير وابن محيصن: "أبي لهب" بسكون الهاء، وقرأ الباقون بتحريك الهاء، ولم يختلفوا في فتحها في "ذات لهب".
وقوله تعالى: ما أغنى عنه ماله وما كسب يحتمل أن تكون "ما" نافية، ويكون الكلام خبرا عن أن جميع أحواله الدنياوية لم تغن عنه شيئا حين حتم عذابه بعد موته، ويحتمل أن تكون "ما" استفهاما على وجه التقرير، أي: أين الغناء الذي لماله ولكسبه؟ و"ما كسب" يراد به عرض الدنيا من عقار ونحوه، أو ليكون الكلام دالا على أنه تعب في تكسبه، لم يجئه عفوا لا بميراث وهبة ونحوه. وقال كثير من المفسرين: المراد بـ"ما كسب" بنوه، فكأنه تعالى قال: ما أغنى عنه ماله وولده، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وروي أن أولاد "خير ما كسب الرجل من عمل يده، وإن ولد الرجل من كسبه". أبي لهب اختصموا عند رضي الله عنهما فتنازعوا وتدافعوا، فقام ابن عباس ليحجز بينهم فدفعه أحدهم فوقع على فراشه، وكان قد كف بصره، فغضب وصاح: أخرجوا عني الكسب الخبيث، وقرأ ابن عباس ، أبي بن كعب : "وما اكتسب". والأعمش
وقوله تعالى: سيصلى نارا ذات لهب حتم عليه بالنار، وإعلام بأنه يوافي على كفره، وانتزع أهل العلم بالأصول من هذه الآية جواز تكليف ما لا يطاق، وأنه موجود في قصة أبي لهب، وذلك أنه مخاطب مكلف أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومكلف أن يؤمن بهذه السورة وصحتها، فكأنه قد كلف أن يؤمن، وأن يؤمن أنه لا يؤمن، قال الأصوليون: ومتى ورد تكليف ما لا يطاق فهي أمارة من الله تعالى أنه قد حتم عذابه، أي عذاب ذلك المكلف، لقصة أبي لهب. وقرأ الجمهور: "سيصلى" بفتح الياء، وقرأ ابن كثير ، والحسن بضمها. وابن مسعود
[ ص: 708 ] وقوله تعالى: وامرأته حمالة الحطب هي أم جميل، أخت ، عمة أبي سفيان بن حرب . وعطف قوله تعالى: "وامرأته" على الضمير المرفوع دون أن يؤكد الضمير بسبب الحائل الذي ناب مناب التأكيد، وكانت معاوية بن أبي سفيان أم جميل هذه مؤذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بلسانها وغاية قدرتها، وقال : كانت تجيء بالشوك فتطرحه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم وطريق أصحابه ليعقرهم، فبذلك سميت حمالة الحطب، وعلى هذا التأويل فـ "حمالة" معرفة يراد به الماضي. وقيل: إن قوله تعالى: ابن عباس حمالة الحطب استعارة لذنوبها التي تحطبها على نفسها لآخرتها، فـ "حمالة" -على هذا- نكرة يراد به الاستقبال، وقيل: هي استعارة لسعيها على الدين والمؤمنين، كما تقول: "فلان يحطب على فلان"، فكانت هي تحطب على المؤمنين، وفي حبل المشركين، وقال الشاعر:
إن بني الأدرم حمالوا الحطب هم الوشاة في الرضا وفي الغضب
وقرأ : "ومريئته". وقرأ الجمهور: "حمالة" بالرفع، وقرأ ابن مسعود : "حمالة" بالنصب على الذم، وهي قراءة عاصم الحسن والأعرج وابن محيصن، وقرأ : "حمالة للحطب" بالرفع ولام الجر وقرأ ابن مسعود : "حاملة" بكسر الميم بعد الألف. أبو قلابة
قوله تعالى: في جيدها حبل من مسد ، قال ، ابن عباس ، والضحاك ، [ ص: 709 ] والسدي : الإشارة إلى الحبل حقيقة، وهو الذي ربطت به الشوك وحطبه، قال وابن زيد : والمسد الليف، وقيل: ليف المقل ذكره السدي أبو الفتح، وقال : هو شجر ابن زيد باليمن يسمى المسد، تصنع منه الحبال، وقال : النابغة
مقذوفة بدخيس النحض بازلها له صريف صريف القعو بالمسد
القعو: البكرة، والمسد: الحبل. وقال ، عروة بن الزبير ، وغيرهما: هذا الكلام استعارة، والمراد: سلسلة من حديد في جهنم، ذرعها سبعون ذراعا، ونحو هذا من العبارات، وقال ومجاهد : "حبل من مسد": قلادة من ودع، قال قتادة : كانت لها قلادة فاخرة فقالت: لأنفقنها على عداوة ابن المسيب محمد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فإنما عبر عن قلادتها بحبل من مسد على جهة التفاؤل لها، وذكر تبرجها في هذا السعي الخبيث، وروي في الحديث أم جميل، فجاءت رضي الله عنه وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقالت: يا أبا بكر ، بلغني أن صاحبك هجاني ولأفعلن وأفعلن، وإني لشاعرة، وقد قلت فيه: أبا بكر
مذمما قلينا ودينه أبينا
فسكت ، ومضت هي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حجبني عنها ملائكة فما رأتني، وكفى الله شرها أبو بكر أن هذه السورة لما نزلت وقرئت بلغت
كمل تفسير سورة [المسد]والحمد لله رب العالمين.