[ ص: 276 ] بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الممتحنة
وهي مدنية بإجماع المفسرين.
قوله عز وجل:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل
"العدو" اسم يقع للجمع والمفرد، والمراد به هاهنا كفار قريش، وهذه الآية نزلت بسبب ، وذلك حاطب بن أبي بلتعة مكة عام الفتح، فورى عن ذلك بخيبر، فشاع في الناس أنه خارج إلى خيبر، وأخبر هو جماعة من أصحابه بقصده إلى مكه، منهم ، فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قوم من كفار حاطب مكة يخبرهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم، فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فبعث عليا وثالثا، قيل هو والزبير ، وقيل المقداد أبو مرثد ، وقال: انطلقوا حتى تأتوا [ ص: 277 ] روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب من إلى المشركين، فانطلقوا حتى وجدوا المرأة، واسمها حاطب سارة، مولاة لقوم من قريش، وقيل بل كانت امرأة من مزينة ولم تكن سارة، فقالوا لها: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب، ففتشوا جميع رحلها فما وجدوا شيئا، فقال بعضهم: ما معها كتاب، فقال رضي الله عنه : ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذب، والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك، فقالت: أعرضوا عني، فحلته من قرون رأسها، وقيل: أخرجته من حجزتها، فجاءوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علي : من كتب هذا؟ فقال أنا يا رسول الله، ولكن لا تعجل علي، فوالله ما فعلت ذلك ارتدادا عن ديني ولا رغبة عنه، ولكني كنت امرءا ملصقا في لحاطب قريش ولم أكن من أنفسها، فأحببت أن تكون لي عندهم يد يرعونني بها في قرابتي، فقال رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صدق عمر بن الخطاب ، إنه من أهل حاطب بدر، وما يدريك يا لعل الله قد اطلع على أهل عمر بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ولا تقولوا إلا خيرا"، فنزلت الآية لهذا السبب. لحاطب وروي أن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى حاطبا كتب: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوكم في مثل الليل، والسيل، وأقسم بالله لو غزاكم وحده لنصر عليكم فكيف وهو في جم كثير".
و"تلقون" في موضع الصفة لـ "أولياء"، و"ألقيت" يتعدى بحرف الجر وبغير حرف جر، فدخول الباء وزوالها سواء، وهذا نظير قوله عز وجل: وألقيت عليك محبة مني وقوله تعالى: سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ، وروى المعلى عن أنه قرأ: وقد "كفروا لما" بلام . عاصم
[ ص: 278 ] وقوله تعالى: "يخرجون" في موضع الحال من الضمير في "كفروا" والمعنى: يخرجون الرسول ويخرجونكم، وهي حال مؤكدة، فلذلك ساق الفعل مستقبلا والإخراج قد مر، وتضييق الكفار على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إخراج إذ كان مؤديا إلى الإخراج، وقوله تعالى: "أن تؤمنوا"" مفعول من أجله، أي: أخرجوكم من أجل أن آمنتم بربكم، وقوله تعالى: "إن كنتم" شرط جوابه متقدم في معنى ما قبله، وجاز ذلك لما لم يظهر عمل الشرط، والتقدير: إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، و"جهادا" نصب على المصدر، وكذلك "ابتغاء"، ويجوز أن يكون ذلك مفعولا من أجله، و "المرضاة" مصدر كالرضى، و"تسرون" بدل من "تلقون"، ويجوز أن تكون في موضع خبر ابتداء، كأنه تعالى قال: أنتم تسرون، ويصح أن يكون فعلا مرسلا ابتدأ به القول، والإلقاء بالمودة معنى ما، والإسرار بها معنى زائد على الإلقاء، فترجع بهذا أن "تسرون" فعل ابتدئ به القول، أي: تفعلون ذلك وأنا أعلم، وقوله تعالى: "أعلم" يحتمل أن يكون "أفعل"، ويحتمل أن يكون فعلا لأنك تقول "علمت بكذا" فتدخل الباء، وقوله تعالى: "وأنا أعلم" الآية... جملة في موضع الحال، وقرأ أهل المدينة: و"أنا" بإشباع الألف في الإدراج، وقرأ غيرهم "وأنا" بطرح الألف في الإدراج.
والضمير في "يفعله" عائد على الاتخاذ المذكور، و"سواء" يجوز أن يكون مفعولا مفعولا بـ "ضل"، وذلك على تعدي "ضل"، ويجوز أن يكون ظرفا على غير التعدي لأنه يجيء بالوجهين، والأول أحسن في المعنى، و"السواء": الوسط، وذلك لأنه تتساوى نسبته إلى أطراف الشيء، و"السبيل" هنا شرع الله تعالى وطريق دينه.