[ ص: 138 ] ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم
استعير الفتح للإطلاق والإرسال . ألا ترى إلى قوله : فلا مرسل له من بعده مكان : لا فاتح له ، يعني : أي شيء يطلق الله من رحمة أي من نعمة رزق أو مطر أو صحة أو أمن أو غير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحاط بعددها ، وتنكيره الرحمة للإشاعة والإبهام ، كأنه قال : من أية رحمة كانت سماوية أو أرضية ، فلا أحد يقدر على إمساكها وحبسها ، وأي شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إطلاقه . فإن قلت : لم أنث الضمير أولا ، ثم ذكر آخرا ؟ وهو راجع في الحالين إلى الاسم المتضمن معنى الشرط ؟ قلت : هما لغتان : الحمل على المعنى وعلى اللفظ ، والمتكلم على الخيرة فيهما ، فأنث على معنى الرحمة ، وذكر على أن لفظ المرجوع إليه لا تأنيث فيه ، ولأن الأول فسر بالرحمة ، فحسن إتباع الضمير التفسير ، ولم يفسر الثاني فترك على أصل التذكير وقرئ : (فلا مرسل لها ) . فإن قلت : لا بد للثاني من تفسير ، فما تفسيره ؟ قلت : يحتمل أن يكون تفسيره مثل تفسير الأول . ولكنه ترك لدلالته عليه ، وأن يكون مطلقا في كل ما يمسكه من غضبه ورحمته ، وإنما فسر الأول دون الثاني للدلالة على أن رحمته سبقت غضبه . فإن قلت : فما تقول فيمن فسر الرحمة بالتوبة وعزاه إلى -رضي الله عنهما - ؟ قلت : إن أراد بالتوبة الهداية لها والتوفيق فيها -وهو الذي أراده ابن عباس -رضي الله عنهما - إن قاله - فمقبول ، وإن أراد أنه إن شاء أن يتوب العاصي تاب ، وإن لم يشأ لم يتب ، فمردود ; لأن الله تعالى يشاء التوبة أبدا ، ولا يجوز عليه أن يشاءها ابن عباس من بعده من بعد إمساكه ، كقوله تعالى : فمن يهديه من بعد الله [الجاثية : 23 ] ، فبأي حديث بعد الله [الجاثية : 6 ] أي من بعد هدايته وبعد آياته وهو العزيز الغالب القادر على الإرسال والإمساك "الحكيم " الذي يرسل ويمسك ما تقتضي الحكمة إرساله وإمساكه .