الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع

                                                                                                                                                                                                الآزفة: القيامة، سميت بذلك لأزوفها، أي: لقربها. ويجوز أن يريد بـ "يوم الآزفة": وقت الخطة الآزفة، وهي مشارفتهم دخول النار، فعند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارها فتلصق بحناجرهم، فلا هي تخرج فيموتوا، ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا ويتروحوا، ولكنها معترضة كالشجا، كما قال تعالى: فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا [الملك: 27]. فإن قلت: "كاظمين" بما انتصب؟ قلت: هو حال عن أصحاب القلوب على المعنى; لأن المعنى: إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها. ويجوز أن يكون حالا عن القلوب، وأن القلوب كاظمة على غم وكرب فيها مع بلوغها الحناجر، وإنما جمع الكاظم جمع السلامة; لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء، كما قال تعالى: رأيتهم لي ساجدين [يوسف: 4] وقال: فظلت أعناقهم لها خاضعين [الشعراء: 4] وتعضده قراءة من قرأ: (كاظمون) ويجوز أن يكون حالا عن قوله: وأنذرهم، أي: وأنذرهم [ ص: 338 ] مقدرين أو مشارفين الكظم، كقوله تعالى: فادخلوها خالدين [الزمر: 73] الحميم: المحب المشفق. والمطاع: مجاز في المشفع; لأن حقيقة الطاعة نحو حقيقة الأمر في أنها لا تكون إلا لمن فوقك. فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: ولا شفيع يطاع ؟ قلت: يحتمل أن يتناول النفى الشفاعة والطاعة معا، وأن يتناول الطاعة دون الشفاعة، كما تقول: ما عندي كتاب يباع، فهو محتمل نفى البيع وحده، وأن عندك كتابا إلا أنك لا تبيعه، ونفيهما جميعا، وأن لا كتاب عندك، ولا كونه مبيعا. ونحوه [من السريع]:


                                                                                                                                                                                                ولا ترى الضب بها ينحجر



                                                                                                                                                                                                يريد: نفى الضب وانجحاره. فإن قلت: فعل أي الاحتمالين يجب حمله؟ قلت: على نفى الأمرين جميعا، من قبل أن الشفعاء هم أولياء الله، وأولياء الله لا يحبون ولا يرضون إلا من أحبه الله ورضيه، وأن الله لا يحب الظالمين، فلا يحبونهم، وإذا لم يحبوهم لم ينصروهم ولم يشفعوا لهم. قال الله تعالى: وما للظالمين من أنصار [البقرة: 270] وقال: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى [الأنبياء: 28] ولأن الشفاعة لا تكون إلا في زيادة التفضل، وأهل التفضل وزيادته إنما هم أهل الثواب، بدليل قوله تعالى: ويزيدهم من فضله [النساء: 174] وعن الحسن رضي الله عنه: والله ما يكون لهم شفيع البتة، فإن قلت: الغرض حاصل بذكر الشفيع ونفيه، فما الفائدة في ذكر هذه الصفة ونفيها؟ قلت: في ذكرها فائدة جليلة، وهي أنها ضمت إليه; ليقام انتفاء الموصوف مقام الشاهد على انتفاء الصفة; لأن الصفة لا تتأتى بدون موصوفها، فيكون ذلك إزالة لتوهم وجود الموصوف، بيانه: أنك إذا عوتبت على القعود عن الغزو فقلت: ما لي فرس أركبه، ولا معي سلاح أحارب به، فقد جعلت عدم الفرس وفقد السلاح علة مانعة من الركوب والمحاربة، كأنك تقول: كيف يتأتى مني الركوب والمحاربة ولا فرس لي ولا سلاح معي؟ فكذلك قوله: ولا شفيع يطاع معناه: كيف يتأتى التشفيع [ ص: 339 ] ولا شفيع، فكان ذكر التشفيع والاستشهاد على عدم تأتيه بعدم الشفيع وضعا لانتفاء الشفيع موضع الأمر بالمعروف غير المنكر الذي لا ينبغي أن يتوهم خلافه.

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية