أبطل الإسلام الحنيف كل قيم الجاهلية الظالمة، التي تفرق بين الإنسان وأخيه الإنسان على أساس طبقي، فهؤلاء قوم نوح يخاطبونه قائلين: ( قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ) (الشعراء:111)، فيرد عليهم نوح، عليه السلام، قائلا: ( ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون * ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون * ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين ) (هود:29-31).
وحذر المولى تعالى رسوله الكريم محمدا، عليه الصلاة والسلام، من الانصراف والابتعاد عن الضعفاء والفقراء لكسب رضا المستكبرين، فقال عز من قائل: ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين ) (الأنعام:52)، وقد ورد في صحيح مسلم، أن سادة قريش قد طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم مجلسا خاصا بهم لا يحضره الضعفاء والدهماء من الناس كبلال الحبشي وعمار بن ياسر وصهيب [ ص: 89 ] الرومي وابن مسعود...الخ، رضي الله عنهم، حتى لا يجترئ هؤلاء على الملأ، وحتى يتسنى لهؤلاء السادة والأشراف أن يستمعوا لدعوته إذا أقصى الضعفاء عنه، فحذره المولى عز وجل من قبول طلبهم وأنزل قوله تعالى: ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا * وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا ) (الكهف:28).
وعاتب المـولى عـز وجـل رسـوله الكريـم عنـدما انصرف عـن دعوة ابن أم مكتوم الأعمى والضعيف من أجل دعوة الوليد بن المغيرة السيد والشريف في قريش، فقال في شأنهما: ( عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى ) (عبس:1-10).
يمكن إضافة نوع رابع لأنواع الظلم الثلاثة المذكورة آنفا، وهو الظلم السياسي، الذي يعتبر في وقتنا الحاضر من أكثر أنواع الظلم شيوعا وأكثرها دمارا وفتكا بالشعوب والأفراد، وهذا النوع من الظلم تجسده بصورة رائعة قصة الطاغوت فرعون، صاحب الملك والسلطان، التي وردت في عدة مواضع في [ ص: 90 ] القرآن الكريم، فكانت بمثابة تنبيه متكرر ومستمر لولاة أمور الناس ولأصحاب الملك والسلطان، بضرورة الابتعاد عن الظلم والاستبداد والفساد، يقول رب العزة: ( وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون * وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين * واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون * فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ) (القصص:37-40).
ولعل دراسات الصحفي الفلسطيني عادل البشتاوي تلقي أضواء كاشفة عن محاربة الظلم في وقتنا الحاضر، فقد ركز فيها على الظلم في المجال السياسي، وصدرت هذه الدراسات في كتابين[1] ، عرض فيهما الباحث بشكل تفصيلي للظلم السياسي بصوره وأشكاله المختلفة والذي تمارسه الأنظمة والقوى المتنفذة في عالمنا المعاصر، للمحافظة على بقائها واستمرارية وجودها أولا، ولتحقيق مصالحها ثانيا، ضاربة في سبيل ذلك بعرض الحائط بكل القيم الأخلاقية والإنسانية وحقوق الإنسان، وبطرق لا تقل بؤسا عن أساليب عصابات المافيا والقراصنة [2] . [ ص: 91 ]
يقول البشتاوي في كتابه تاريخ الظلم العربي: "وخلال ستين عاما عاشت الأمة جحيم ظلم أذاقتها الأنظمة كل نكهة منه: ظلم باسم الحرب على الإرهاب، وظلم باسم الحرب على المتشددين، وظلم باسم الدفاع عن الدين، وظلم باسم الوحدة وباسم التقدمية وباسم الوطنية وباسم القومية وباسم الاشتراكية وباسم الحزب ... كان من ينادي بالحرية وحكم القانون يتهم بالعمالة للاستعمار، وذهب الاستعمار فصار يتهم بأنه عميل للإمبريالية، ولم يعد لهذا الاتهام معنى، فصار يتهم بأنه شيوعي، وسقطت الشيوعية فصار يتهم بالإرهاب" [3] .
على صعيد آخر، يذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى القول بوجود ظلم مطلق وهو الإشراك بالله تعالى وكل ما يدور في فلك ذلك من ذنوب، وهناك ظلم مقيد ويشمل ظلم الآخر وظلم النفس [4] ، وفي موقع آخر يرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن الظلم "يكون في ترك واجب أو فعل محرم، وقد يجمع الأمرين"، من هنا يرى أن الظلم نوعان، هما [5] :
- تفريط في الحق.
- تعد للحد ومجاوزته. [ ص: 92 ]
والتفريط في الحق هو ترك ما يجب للغير مثل عدم قضاء الديون أو رد الأمـانات إلى أهـلها، أما تعـد الحـد فيقصد به الاعتداء على الآخر بالقتل أو غصب المال، لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع ) [6] ، فجعل تأخير دفع الحق مع القدرة على ذلك ظلما، فكيف إذا لم يدفع!!! [7] .
وفي الحديث النبوي الشريف، عن أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الظلم ثلاثة: فظلم لا يتركه الله، وظلم يغفر، وظلم لا يغفر، فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك لا يغفره الله، وأما الظلم الذي يغفر فظلم العبد فيما بينه وبين ربه، وأما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد فيقتص الله بعضهم من بعض ) [8] .
وقد لخصت هذه الأنواع كالآتي [9] :
- ظلم لا يغفر.
- ظلم لا يترك.
- ظلم لا يطلب. [ ص: 93 ]
فالظلم الذي لا يغفر هو الإشراك بالله تعالى: ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ) (النساء:48)، فأعظم حقوق الله تعالى على عباده هو عبادته وعدم الإشراك به شيئا، فمن أدى هذا الحق وعبد الله تعالى وحده مخلصا له فقد قام بأعظم العدل، ومن كان غير ذلك، فقد جار وظلم [10] .
وهذا النوع من الظلم موجب لعقاب الله تعالى في الدنيا ويوم القيامة، وإذا ما رافق الشرك بالله تعالى غصب للحقوق وظلم للآخرين في معاملات الأفراد لبعضهم، فإن ذلك مدعاة لهلاك المجتمع: ( إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم ) (آل عمران :21).
وهذا يعني أن الله تعالى لا يعجل هلاك الأمم لمجرد كونها تشرك به سبحانه، ما دام أن الحكام لا يظلمون الرعية، والناس لا يتظالمون فيما بينهم، وطالما أن أفراد المجتمع أو الأمة يعامل بعضهم بعضا على الصلاح وعدم الفساد، وفي ذلك يقول التهامي: "إن الله تعالى لا يظلم أحـدا بسلب نعمة أو تسليط نقمة، وإنما عقاب لهم لكفرهم وبغيهم وفسادهم، فإذا انتشر الظلم في الحـكام وعـم الجهل وانحطـت الأخـلاق في الـدولة أو الأمـة، تسـربت فيها الفوضى ودب إليها الانحلال، وهذا هو الشأن في كل عصر وأمة"، يقول [ ص: 94 ] المولى عز وجل: ( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) (هود:117) [11] ، ويقول: ( إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ) (يونس:44)، وقيل: "اذكر عند الظلم عدل الله فيك، وعند القدرة قدرة الله عليك" [12] .
وأمـا الظـلم الذي لا يترك، فهو ظلم الآخر وغصب حقه، وفي هذه الحالة يأخـذ الظلـم صـورة عـلاقة غـير متكافئة بين طرفين أحدهما يملك أسباب القوة والآخـر ضعيـف مستضعـف، حيث يوظف الطرف الأول أسبـاب قـوته في غصب الطرف الثاني حقه، وفي ذلك ورد عن السيدة عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين ) [13] .
وورد عـن أبـي أمـامـة إيـاس بن ثعلبـة الحـارثي، رضـي الله عنه، أن رسـول الله صلى الله عليه وسلم قـال: ( من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة، فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: وإن قضيبا من أراك ) [14] . [ ص: 95 ]
ومن أشد حالات هذا الظلم وأكثرها مقتا، ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وبالذات ظلم الضعفاء من عباد الله، وظلم الإنسان لمن دونه منزلة أو مكانة، كظلم السلطان لرعيته أو ظلم الرئيس أو الأمير لأتباعه، وقد قيل: "أشد الناس عذابا يوم القيامة من أشركه الله في سلطانه فجار في حكمه"، وقيل أيضا: "من طال عدوانه زال سلطانه" [15] ،
وظلم السلطان يغتال في الأمة كل معاني العزة والكرامة، ويحملها على الانحراف عن مسار الشرع الحنيف، وقد روى أبو سعيد الخدري، رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلسا إمام عادل، وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه مجلسا إمام جائر ) [16] ، وقد روي عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أنبئكم بشرار الناس؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من أكل وحده، ومنع رفده، وجلد عبده. ثم قال: أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره، ثم قال: ألا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من يبغض الناس ويبغضونه ) [17] ، وروي أن عيسـى بن مريـم، عليـه السـلام، قـام خطيبا في بني إسرائيل فقال: "لا تكافئوا ظالما فيبطل فضلكم" [18] . [ ص: 96 ]
وقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين، بضرورة إعادة الحقوق لأصحابها في الدنيا قبل الآخرة، وإلا ستبقى دينا في أعناقهم إلى يوم الدين، ليدفعوها من حسناتهم، وفي ذلك يروي أبو هريرة، رضي الله تعالى عنه، عن الصادق المصدوق، عليه السلام، أنه قال: ( أتدرون ما المفلس، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ) [19] .
وفي حديث آخر يقول، عليه الصلاة والسلام: ( من كانت له مظلمة لأخيـه مـن عرضـه أو شيء فليتحلله منـه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ) [20] .
وظلـم الآخـر موجـب ومعجـل للعـذاب والهـلاك، وهـذه سنـة من سنن الله تعالى على مر العصور، فقد روى أبو موسى، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته [ ص: 97 ] قال: ثم قرأ: ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ) (هود:102) ) [21] ، وهذا يؤكد مدى خطورة هذا النوع من الظلم على الأفراد والمجتمعات والحياة الإنسانية عامة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ولي من أمر المسلمـين شيئا، فأمـر عليهم أحـدا محـاباة، فعـليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، حتى يدخله جهنم ) [22] ، وفي حديث آخر، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من استعمل رجلا من عصابة، وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله، وخان رسوله، وخان المؤمنين ) [23] .
استند شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، على تفسير الإمامين الرازي والقرطبي للآية (117) من سورة هود: ( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) ، ليقول مقولته الشهيرة: "الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت [ ص: 98 ] كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة" [24] ، ويقول أيضا: "وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك مع أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم ) فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورا له مرحوما في الآخرة، وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة" [25] .
وقد أشارت السنة النبوية الشريفة لهذا المعنى بصورة بليغة، حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا أبا هريرة، عدل ساعة أفضل من عبادة ستين سنة، قيام ليلها، وصيام نهارها، يا أبا هريرة، جور ساعة في حكم أشد وأعظم عند الله عز وجل من معاصي ستين سنة ) [26] .
ورحم الله تعالى الشاعر أبا الفتح البستي القائل [27] :
عليك بالعدل إن وليت مملكة واحذر من الجور فيها غاية الحذر فالملك يبقى على عدل الكفور
ولا يبقى مع الجور في بدو ولا حضر
إن نتائج وتداعيات هذا النوع من الظلم خطيرة، ليس فقط في المكان الذي يحدث فيه، بل إنه يهدد الحياة الإنسانية في كل الأماكن الأخرى؛ لأنه [ ص: 99 ] يشكل خطرا على منظومات القيم والأخلاق الإنسانية في عموم البسيطة، يقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما: ( يوم من إمام عدل خير من عبادة ستين سنة، وحد يقام في الأرض بحقه أزكى من مطر أربعين صباحا ) [28] ، وفي هذا المعنى يقول "مارتن لوثر كنج": "الظلم أينما كان، يهدد العدل في كل مكان".
وقد ركزت كثير من آيات القرآن الكريم وفي مواضع مختلفة على ضرورة تجنب الظلم، الذي لا يغفر، والظلم الذي لا يترك، وذلك من خلال العمل بالوصايا العشر التي جاءت في قوله تعالى: ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون * ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون * وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) (الأنعام:151-153). [ ص: 100 ]
يقول الشيخ المطيري: إنه جاء في هذه الآيات أعلاه وصيتان في حق الله تعالى، وثماني وصايا جاءت من أجل الإنسان، أما الوصايا، التي في حق الله تعالى فهي [29] :
- التوحيد.
- اتباع شريعة الحق، التي نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم .
وأما الوصايا، التي في حق البشر فهي: [30]
- الإحسان للوالدين.
- الرحمة بالأولاد.
- عدم الاعتداء على الناس.
- تحريم الفواحش.
- الوفاء بالميزان.
- عدم أكل مال اليتيم.
- الوفاء بالعهود والعقود.
- الشهادة بالعدل.
والحقيقة أن العمل بهذه الوصايا وتطبيقها في حياة الفرد والمجتمع من شأنه أن يسد أبواب الظلم، الذي لا يغفر والظلم الذي لا يترك. [ ص: 101 ]
وفيما يتعلق بالظلم الذي لا يطلب فهو ظلم الإنسان لنفسه، وهذا النوع من الظلم هو ظلم مغفور، ويقصد به أن لا يعمل الإنسان على صلاح نفسه بعدم التقيد بما أمر الله تعالى من عبادات ومعاملات، ولا يمنعها من عمل المنكرات أو الابتعاد عما نهى الله تعالى، من فسق وفجور وعصيان وإسراف في الشهوات والتكبر.. الخ، وهذه جميعها فيه ظلم للنفس، وقد قيل: من ظلم نفسه فهو لغيره أظلم.
والحق أن أنواع الظلم الثلاثة الآنف ذكرها هي في النهاية جميعا ظلم للنفس: ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير ) (فاطر:32).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن النفس فيها داعي الظلم لغيرها بالعلو عليه والحسد له، والتعدي عليه في حقه، وداعي الظلم لنفسها بتناول الشهوات القبيحة كالزنا وأكل الخبائث، فهي قد تظلم من لا يظلمها، وتؤثر هذه الشهوات وإن لم تفعلها، فإذا رأت نظراءها قد ظلموا وتناولوا هذه الشهوات صار داعي هذه الشهوات أو الظلم فيها أعظم بكثير، وقد تصبر، ويهيج ذلك لهـا من بغـض ذلك الغير وحسده وطلب عقابه وزوال الخير منه ما لم يكن فيها قبل ذلك، ولها حجة عند نفسها من جهة العقل والدين، يكون ذلك الغير قد ظلم نفسه والمسلمين" [31] . [ ص: 102 ]
ويذهب الإمام ابن تيمية في موقع آخر للقول: إن ظلم العبد لنفسه يغطي جميع الذنوب، يقول تعالى: ( وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب ) (هود:101)، ويقول تعالى: ( قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ) (النمل:44).
- موقف وعبرة:
روي في الأثر الصالح، أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، قد زار مدينة حمص في أثناء خلافته، وكان أميره عليها في ذلك الوقت الصحابي الجليل سعيد بن عامر رضي الله عنه فسأل عمر الناس عن أميرهم.
يقول خالد بن معدان:
استعمل علينا عمر بن الخطاب بحمص سعيد بن عامر بن جذيم الجمحي، فلما قدم عمر بن الخطاب حمص، قال: يا أهل حمص كيف وجدتم عاملكم؟ فشكوه إليه ... قالوا: نشكو أربعا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: أعظم بها، قال: وماذا؟ قالوا: لا يجيب أحدا بليل، قال: وعظيمة، قال: وماذا؟ قالوا: وله يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا، قال: عظيمة، قال: وماذا؟ قالوا: يغنظ الغنظة بين الأيام، يعني تأخذه موتة .
قـال: فجمع عمر بينهم وبينه، وقـال: اللهم لا تفيل رأيي فيه اليوم، ما تشكون منه؟ قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: والله إن كنت [ ص: 103 ] لأكره ذكره، ليس لأهلي خادم فأعجن عجيني ثم أجلس حتى يختمر ثم أخبز خبزي ثم أتوضأ ثم أخرج إليهم.
فقال: ما تشكون منه؟ قالوا: لا يجيب أحدا بليل، قال: ما تقول؟
قال: إن كنت لأكره ذكره، إني جعلت النهار لهم وجعلت الليل لله عز وجل.
قال: وما تشكون؟ قـالوا: إن لـه يوما في الشهر لا يخرج إلينا فيه. قال: ما تقول؟ قال: ليس لي خادم يغسل ثيابي ولا لي ثياب أبدلها، فأجلس حتى تجف ثم أدلكها ثم أخـرج إليهـم من آخر النهار.
قال: ما تشكون منه؟ قالوا: يغنظ الغنظة بين الأيام، قال: ما تقول؟
قال: شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة، وقد بضعت قريش لحمه ثم حملوه على جذعة. فقالوا: أتحب أن محمدا مكانك؟ فقال: والله ما أحب أني في أهلي وولدي وأن محمدا صلى الله عليه وسلم شيك بشوكة، ثم نادى يا محمد، فما ذكرت ذلك اليـوم وتركي نصرته في تلك الحـال وأنا مشـرك لا أومن بالله العظيـم إلا ظننت أن الله عز وجل لا يغفر لي بذلك الذنب أبدا، قال: فتصيبني تلك الغنظة.
فقال عمر: الحمد لله، الذي لم يفيل فراستي [32] . [ ص: 104 ]