المبحث الثاني: ضمانات استقلال القضاء
المطلب الأول: ضمانات التعيين:
لما كان مقصود الشارع من إقامة نظام القضاء، هو بث روح العدل والتناصف في نفوس الخلائق، فقد حرص قبل إيجاد النظم القضائية، والآليات العملية على غرس هذه الروح في قيم المجتمع الناشئ
[1] .
وبمعنى آخر، فقد أحاطت الشريعة الإسلامية الهيكل القضائي بسياج ديني أخلاقي إلى جانب الضمانات القانونية، واعتبرت أن المبادئ القضائية والأخلاقية مرتبط بعضها ببعض، قال الله تعالى: ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) (ص:26) . [ ص: 140 ]
بهذا المعنى، قررت الشريعة الإسلامية المسؤولية الدينية للقاضي، واعتبرتها أولى ضمانات العدل، ومزجت هذه المسؤولية بالعقيدة، مما اقتضى مراعاة القاضي للجانب التعبدي والروحي خلال ممارسته للقضاء.
ولا غرو في ذلك، فإن الشريعة الإسلامية باستهدافها للعدل، وحفظ الحقوق وصيانة الحريات، لا يمكن بحال أن تغفل عن إقرار هذا المبدأ الذي هو أساس استقلال القاضي عن كل مؤثر سواء أكان ذاتيا أم خارجيا.
ولعلي أؤكد أن اعتماد التنظيم القضائي الإسلامي على العقيدة والأخلاق، قد ساهمتا في تأمين تطبيقه وضمان استقامته [2] .
وإذا كان العمل القضائي يقتضي أن يتحلى القاضي بصفات متعددة، فإنها كلها تعود بالاستقراء إلى قسمين:
القسم الأول: ما يتعلق بالجانب الأخلاقي.
القسم الثاني: ما يتعلق بالجانب السلوكي أو المزايا الشخصية.
دل على هذا قول الله تعالى: ( إن خير من استأجرت القوي الأمين ) (القصص:26) . [ ص: 141 ]
فالقوة هنا تعود إلى الجانب السلوكي، وهو الحكم بالحق الذي يقتضي العلم بوجوه العدل الذي دل عليه الكتاب والسنة.
والأمـانة هنا تعود إلى الجانب الأخـلاقي، وهو الخشية من الله وترك خشية الناس [3] .
وهذان القسمان إجمالا، يستندان إلى الجانب التعبدي، لما للوازع الديني من أهمية في النظام الإسلامي، وهو ما يجعل من ضمير القاضي محكمة دائمة، ويقيم رقابة داخلية تؤنبه وتحاسبه في كل خطوة يخطوها في مراحل الحكم. فالخوف والخشية غير مبنية على محاسبة مخالفة القانون، وإنما على تقوى الله، والخوف من عقابه في الآخرة [4] .
واستناد العدالة إلى تقوى الله والخشية منه، هي أكبر ضمانات استقلال القضاة في ممارساتهم الوظيفية. لهذا فإن أولى واجبات القاضي "معالجة نفسه والاجتهاد في صلاح حاله، ويكون ذلك من أهم ما يجعله من باله، فيحمل نفسه على آداب الشرع وحفظ المروءة وعلو الهمة، ويتوقى ما يشينه في دينه ومروءته وعقله، ويحطه عن منصبه وهمته" [5] .
هذا التوجه في جعل تقوى الله وخشيته هو ديدن القضاة في كل قضية تعرض عليهم، كرسته الأحاديث النبوية المحذرة من الإقدام على تولي [ ص: 142 ] المناصب
[6] ، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : ( من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه، ومن لم يطلبه ولم يستعن عليه أنزل الله ملكا يسدده ) [7] .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة قط ) [8] .
هذه المسؤولية الدينية التي نيطت بعهدة القضاة، دفعت كثيرا من العلماء إلى الإحجام عن تولي هذا المنصب، إما خشية أن يكونوا من أصحاب [ ص: 143 ] الثلثين [9] ، وإما خوف أن يتعرضوا لتدخلات الخلفاء والأمراء. ولهذا كان كثير منهم لا يقبلون هذا المنصب إلا بعد أن يأخذوا على ذلك العهود والمواثيق من الخليفة، أنه لا يتدخل فيهم؛ والشواهد التاريخية على ذلك كثيرة.
من ذلك أن سحنون قال عند توليته القضاء: "لم أكد أرى قبول هذا الأمر حتى كان من الأمير معنيان: أحدهما: أعطاني كل ما طلبت، وأطلق يدي في كل ما رغبت، حتى أني قلت: أبدأ بأهل بيتك وقرابتك وأعوانك، فإن قبلهم ظلامات للناس وأموالا منذ زمن طويل، فقال لي: نعم، لا تبدأ إلا بهم، وأجر الحق على مفرق رأسي. وجارني من عز منه مع هذا ما يخاف منه المرء على نفسه، وفكرت فلم أجد لنفسي سعة في رده" [10] .
ويظهر استقـلال القضـاة أيضـا وقوتـهم في الحق في موقف عيسى ابن مسكين [11] حين تولى القضاء، فمن ضمن ما اشترط على الأمير قوله: "وأجعلك وبني عمـك وجندك، وفقراء الناس وأغنياءهم في درجة واحدة، قال: نعم" [12] . [ ص: 144 ]
وهكذا، فقد كان لخضوع القاضي في الشريعة الإسلامية إلى المسؤولية الدينية، أكبر الأثر في استقلال القاضي والتزامه نهج الاستقامة وتحريه للعدل في كل حكم يباشره، بل وتلزمه إنفاذ هذا الحكم، إذا خشي أن تتدخل بعض الأطراف، إما لتحييده هو أو لتغيير الحكم. وعلى هذا استقر الفقه، إذ ذكر بعضهم أنه "كثيرا ما يقع في زماننا ينهى الأمير القاضي عن تمام الحكم في قضية أو عن ابتدائه كمنعه من الحكم على الجند أيام الحركة، فإن كان قبل عزل نفسه عن ذلك، وإن كان بعد ظهوره وجب السعي في تمامه" [13] .
ولعل ما يؤكد هذا المعنى، وقوة القاضي في إنفاذ الحق، ولو كان ذلك على حساب الخليفة، ما رواه النباهي في "تاريخ قضاة الأندلس"، إذ ذكر أن العباس بن عبد الملك المرواني اغتصب ضيعة لرجل من جيان، فهلك الرجل وترك أيتامـا صغـارا.
فلما ترعرعوا وسمعوا بعدل القاضي مصعب بن عمران [14] قدموا إليه مطالبين برفع الظلم عنهم وإنصافهم. وأثبتوا ما وجب إثباته، فأرسل القاضي في طلب العباس وأعلمـه بما ثبت لديـه وضرب له الآجال، فلما انصرمت ولم يأت بشيء أعلمه أنه ينفذ الحكم عليه، ففزع العباس إلى الأمير الحكم [15] [ ص: 145 ] وسأله أن يوصي القاضي بالتخلي عن النظر في القضية ليكون هو الناظر فيها، فأرسل بذلك الأمير إلى القاضي المرة تلو المرة وعزم عليه، فلما رأى القاضي ذلك، أخذ قرطاسا فسواه وعقد فيه حكمه للقوم بالضيعة ثم أنفذه لوقته بالإشهاد عليه، ثم قال للرسول: أعلم الأمير أني قد أنفذت ما لزمني إنفاذه من الحق خوف الحادثة على نفسي ورهبة السؤال عنه، وإن شاء نفذه فذلك له يتقلد منه ما شاء [16] .
من كل هذا نتبين أن اعتناء الشريعة الإسلامية بجعل المسؤولية القضائية مسؤولية دينية-عقدية بالأساس، تستمد وجودها من ضمائر القضاة وصفاتهم وسلوكهم، جعلتهم أقوياء في الحق، صارمـين في مواجهـة الخلفاء والأمراء، إذا ما فكروا في التدخل في القضاء، كون الأمر لم يكن مجرد شعار يرفع، والواقع يمارس بخلافه، فالقاضي لا يخاف في الله لومة لائم [17] . وعندما لا يجد استجابة لما يقضي به يعتزل القضاء، صونا لهذا المنصب أن تنتهك حرمته، ورفعا للواء العدل والحق أن تسقط ذؤابته [18] .
والشريعـة إذ تقرر المسـؤولية الدينية للعمل القضائي، تقرر أيضا المسـؤولية الأخلاقيـة التي تمنح القـاضي القدرة على محاسبة نفسه، فتجعل [ ص: 146 ] من ضمـيره المراقب والمحـاسب له، باعتباره الحصـن الذي يلجأ إليه لتحقيق العدالة [19] .
إلى ذلك، وحتى يكون القضاء أكثر استقلالا، جعلت الشريعة الإسلامية أمر تعيين القضـاة إلى الخليفـة أو من ينوبه [20] ، وفي ذلك يقول الماوردي: "فأما الأصل فهو الإمام المستخلف على الأمة، فتقليد القضاء من جهته فرض يتعين عليه لأمرين اثنين، أولهما: لدخوله في عموم ولايته. وثانيهما: أن التقليد لا يصح إلا من جهته" [21] . [ ص: 147 ]
وهـذا الأمر هو الـذي درجت عليه بعض النظم السياسية المعـاصرة، إذ عهدت إلى رئيس الدولة بتعيين القضاة.
مما تقدم بيانه نخلص إلى أن الشريعة الإسلامية، وسعيا منها لإقرار العدل والتناصف في واقع الناس لم تستند إلى تركيز مبادئ الاستقلال في تشريعاتها وأحكامها فقط، بل سعت مع ذلك إلى إحاطة العمل القضائي بجملة من الضمانات، التي دعمت استقلال القضاة في ممارساتهم الوظيفية بما يساير روح التشريع ومقاصده.