الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المطلب الثاني: في القانون الوضعي:

إن حاجة الإنسان لقضاء عادل تتوفر فيه كافة الضمانات القانونية، ويتصل بمقتضاه كل ذي حق بحقه، أصبح في عصرنا الحاضر مبدأ أساسيا تنادي البشرية بالالتزام به وتطبيقه، خاصة وأن القانون الدولي ما فتئ يتطور في اتجاه سن القواعد والأحكام التي تتضمن عقوبات لكل من ينتهك حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.

ويكفي للتدليل على أهمية هذا التوجه العالمي ما تضمنته المادة العاشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، من أن لكل شخص الحق في محاكمة عادلة أمام محكمة مستقلة ومحايدة[1] .

وإذا جاءت النصوص والتوصيات الأممية لتؤكد على حق الإنسان في محاكمة عادلة، تكريسا لمبدأ من مبادئ القانون الطبيعي، فإن هذا يأتي قطعا مع ممارسات قديمة عرفتها البشرية طيلة تاريخها الطويل انتهكت خلالها قيمة العدل، وذلك خاصة حينما كان الحاكم ينفرد بجميع السلطات بين يديه، فهو المشرع والقاضي والمنفذ في نفس الوقت، أو حينما كان يفوض القضاء لأشخاص لا تتوفر فيهم الشروط الكافية لتقلد خطة القضاء والإصداع بالحق، فضلا عن غياب القواعد والضوابط التي تجعل المتقاضي في مأمن من كل تعسف وجور. [ ص: 134 ]

ومع ظهور مؤسسة الدولة وخروج الحكم من أيدي رجال الكنيسة في أوروبا، وبروز الفلسفة الوضعية التي جعلت من القانون عملا يأتيه الإنسان استجابة لحاجاته المتطورة لا دخل فيه للغيبيات، تدرجت الإنسانية نحو إقامة أنظمة قانونية وقضائية محددة المعالم، تتوزع فيها الاختصاصات والمشمولات توزيعا دقيقا بين كافة المؤسسات والهياكل مما يحد من هامش التعسف والجور إلى أقصى درجة ممكنة [2] .

ورغم الاختلاف الموجود بين الأنظمة القانونية والقضائية في سائر بلدان العالم، فإن هناك مبادئ وثوابت أصبحت تمثل قواسم مشتركة بين جميع البلدان. فالاعتماد على القوانين وعلى المؤسسات الدستورية، وعلى احترام مبادئ حقوق الإنسان أضحت في هذا العصر، الذي انهارت فيه الإيديولوجيات، من المعايير الدولية التي تقاس بها درجة تحضر الأمم وتمدنها، ومن المعايير المهمة التي ترتكز عليها العلاقات الدولية

[3] . [ ص: 135 ]

وقد حرصت كل الدول على تضمين دساتيرها مبادئ احترام حقوق الإنسان، باعتبار أن الدستور هو القانون الأسمى في الدولة، والذي تصدر التشريعات في إطار مبادئه وأحكامه.

كما سعت إلى تكريس ذلك من خلال تشريعاتها وقوانينها الداخلية، وإن اختلفت تلك الدول في حجم المبادئ والضمانات المقدمة.

وفي هذا الإطار سعت مختلف الدول العربية من جانبها إلى توسيع نطاق الحماية الدستورية لحقوق الإنسان مع مراعاة ما عليه النظم الإجرائية الداخلية.

وقد ارتأت أن خير وسيلة لضمان الحماية الدستورية والتشريعية لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، هي أن ترد النصوص الضامنة لذلك في دستور الدولة ذاته، وفي مواثيقها الوطنية، على نحو يؤكدها ويحددها بما لا يدع مجالا لإهدارها أو انتهاكها، حتى تكون تلك النصوص الإطار الذي تصدر في نطاقه التشريعات الجنائية التي تنظم بالتفصيل حماية تلك الحقوق والحريات

[4] .

كما ينبغي العمل على تنقية الدساتير والمواثيق الوطنية القائمة وكافة التشريعات مما يكون بها من نصوص تتعارض مع مقتضيات تلك الحماية. [ ص: 136 ]

كما أنه لا يجوز بحال من الأحوال تعطيل أحكام الدستور أو وقف العمل به وذلك حفاظا على الشرعية الدستورية [5] .

وإلى جـانب تبني النظـم الدستـورية لمبادئ حقوق الإنسان

[6] ، فقد أقـرت نظرية الفصـل بين السـلطات كضمانة مهمة لاستقرار حقوق الإنسـان واستـقلال السـلطة القضـائية

[7] عن السلطة التنفيذية [ ص: 137 ] [8] والسـلطة التشريعـية [9] ، بما يـكفل تحقيـق العـدل والمسـاواة وحمـاية حقوق الإنسان [10] .

على أن مبدأ الفصل بين السلطات، الذي تتخذه الدول الديمقراطية الحديثة أساسا لأنظمتها، يقتضي عدم تركيز السلطة في يد واحدة، ووجوب توزيعها على هيئات متعددة ومستقلة بحيث تمارس كل منها اختصاصاتها على النحو المبين في الدستور

[11] ، إذ أن قيام سلطات متعددة بمباشرة السلطة [ ص: 138 ] ووظائف الحكم يحول دون الاستبداد، حيث تحد كل سلطة من سلطات السلطة الأخرى، وتردها إلى حدودها إذا ما عن لها تجاوزها والخروج عليها، وذلك عن طريق الرقابة المتبادلة التي تتقرر لكل سلطة إزاء الأخرى، إذ من الثابت أن السلطة توقف السلطة [12] .

وليس معنى مبدأ الفصل بين السلطات استقلال كل واحدة منها عن الأخرى استقلالا مطلقا، لأنه لا يمكن تصور حكومة تسـير بنظام في عملها، إذا كانت السلطات المختلفة فيها لا يتصل بعضها ببعض، ولا تتساند للاضطلاع بأعباء الحكم. ولكن معنى هذا المبدأ أن كل سلطة تعمل مستقلة داخل حدود معينة لا تتعداها، وتحت إشراف السلطة الأخرى التي تمهد لها السبيل وترد من غوائلها إذا جمحت.

ومعنى ذلك أن السلطة القضائية مستقلة في عملها عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. فالقضاء تتولاه المحاكم، ولا يجوز لأية هيئة أن تنتزع دعوى من الدعاوى من قاضيها المختص لتحكم فيها، ولا أن تعدل حكما أصدره القضاء. فالمحاكم تقوم بعملها مستقلة عن سائر الهيئات الأخرى، فليس لأية هيئة أن تملي على المحكمة ما تقضي به في أية دعوى منظورة أمامها.

وبعبارة أخرى، القضاء تتولاه السلطة القضائية ولا يخضع القضاة في عملهم لغير القانون ووحي ضمائرهم ولا يحد من استقلالهم أي قيد لا ينص عليه الدستور [13] . [ ص: 139 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية