الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الأول: ركائز استقلال القضاء

المطلب الأول: في التشريع الإسلامي:

لا أجدني في حاجة إلى التأكيد منذ البداية على أن الشريعة الإسلامية، هي منشأ الحقوق الفردية والحريات العامة.

ومعنى هذا، أن مصـادر التشريع هي مصادر الحقوق والحريات وليس ذات الإنسان، وهذا ما قرره الشاطبي في "موافقاته" بقوله: "وأما حق العبد فراجع إلى الله، من جهـة حق الله فيه، ومن جهة أنه كان لله ألا يجعل للعبد حقا أصلا" [1] .

غير أن التشريع الإسلامي - فيما يبدو- قد أولى عنايته أداء الواجبات قبل تقريره منح الحقوق والحريات، اهتماما بشأن الواجب والتكليف، ذهابا منه إلى أن في النهوض بهذه الواجبات على وجهها الأكمل، ضمانا كافيا لصيانة الحقوق، والحريات نفسها أن يبغى عليها أو تهدر أو يساء استعمالها [2] .

والواضح أيضـا من مقررات التشريع الإسلامي، أنها منحت القضاء سلطة الردع، وأحاطته بسياج من القيم والمبادئ حتى يكون خير ضامن لمقاصدها وغاياتها. [ ص: 125 ]

وإذا كانت سلطة القضاء [3] تقتضي الحرية الكاملة والإرادة التامة لفض المنازعات، بعيدا عن أية مؤثرات تتنافى ومبادئ العدالة والإنصاف، فإن لمبادئ الدين والأخلاق أثرا كبيرا في تقوية هذا الاستقلال، بما لها من التمسك بالتقوى والضمير، ومن الأمر بالعدل والمحافظة على الحقوق والنفوس والأموال.

والعدل


[4] في الشريعة الإسلامية ليس مفهوما قانونيا قاصرا، بل هو بمعناه الشامل مشتق من الاعتدال [5] . ومعلوم أن الاعتدال توسط يدخل في مقومات الفضائل، وقد مر بنا بعض منها.

وعلى هذا فالشريعة الإسلامية تفرض مراعاة العدالة في كل الأمور ومع جميع الأفراد، بل إنها ذهبت إلى أكثر من ذلك، ففرضت مراعاة العدالة مع النفس وحتى مع الأعداء وذلك في قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) (المائدة:8). [ ص: 126 ]

ومما يتصل بالعدالة عناية الشرع الإسلامي بالسماحة، وهي على حد تعبير ابن عاشور: "أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها" [6] . وتعني التوسط في كل الأمور فلا إفراط ولا تفريط.

والشريعة الإسلامية تمتاز إلى ذلك بعنايتها البالغة بالرحمة، لكأنها هي رسالة الإسلام الأولى [7] ، قال الله تعالى: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107) .

وفي الحديث، عنه صلى الله عليه وسلم : ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء ) [8] .

وبهذا المعنى، "فإن الشريعة الإسلامية مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد وهي: عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجـت عن العـدل إلى الجور، وعن الرحمـة إلى ضـدها، وعن المصلحة إلى المفسـدة، وعن الحـكمة إلى العبث فليست من الشريعـة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه" [9] .

وهكذا تبرز الصفة الاجتماعية للإسلام، بحيث تتداخل أسسه الروحية بقواعده التشريعية العملية، وتجعل منه نظاما تشريعيا إنسانيا، يمتزج فيه الوازع [ ص: 127 ] الديني والخلقي مع الوازع القانوني الشرعي، وترتبط مبادئ الإحسان بمبادئ العـدل، وتتأثر هذه فيما بينها جميعا تأثرا متبادلا واضحا

[10] ، ومن يقظة الضمـير الديني وقوة الإيمان الراسخ في أعماقه، يتحول الشعور إلى ممارسات وسلوك وفعل [11] .

وتأسيسا على هذا، تبرز الشريعة الإسلامية باعتبارها دستورا أخلاقيا قانونيا، له حرمته الخاصة في نفوس الأفراد والمجتمع، حكاما ومحكومين. ومرجعية فكرية يحتـكم إليها الجميـع، لما تنطوي عليه من أساس ديني ومثالية روحية.

هذه المبادئ والقيم التي نوهت بها الشريعة في آي عديدة، وجدناها تتجسد في واقع القضاء الإسلامي، باعتباره عملا أخلاقيا قبل كل اعتبار آخر، ولا يمكن الفصل بين خلقية المحاكمة وعدالتها [12] .

فالعدالة باعتبارها مقصد القضاء الأسمى لم تكن لتتحقق بمعناها الحقيقي، إلا إذا تقرر استقلال القضاء واقعا، وهو ما حرصت عليه جميع الأطراف. [ ص: 128 ]

فالخلفاء دأبوا على عدم التدخل في شؤون القضاء، مراعاة لمبدأ استقلاله، وحفظا لهيبته أن تنتقص





[13] ، من ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقي رجلا، فقال: ما صنعت؟ قال: قضى علي وزيد بكذا، قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال: فما منعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكني أردك إلى رأي، والرأي مشترك. فلم ينقض ما قال علي وزيد [14] .

وفي قضية أخرى تشهد للقضاء الإسلامي باستقلاله، وللخلفاء بمراعاتهم لهـذا المبدأ، أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أتي برجل من قريش وجد مع امرأة في ملحفتها ولم تقم البينة على غير ذلك، فضربه أربعين. فاشتكى قوم الرجل إلى عمر، فسـأله عمر عن ذلك فأخـبره الخبر، فقـال له: أورأيت ذلك؟ [ ص: 129 ] قـال: نعم. فقال: نعم ما رأيت. فقال أهل الرجل المضروب: جئنا إليه نستعديه فاستفتاه [15] .

فاستقلال القضاء في الشريعة الإسلامية مرتبط بحكم الشرع، وهو حق للشرع، وواجب على القاضي، لا يملك أحد أن يسلبه أو يبطله، وليس حقا شخصيا للقاضي، فيجوز التنازل عنه.

وعلى الرغم من أن القضاء في النظام الإسلامي لم يكن سلطة بالمفهوم المعروف لدى الفقه الدستوري المعاصر، فلم تعرف الدولة الإسلامية في مستهل نشأتها مبدأ الفصـل بين السلطـات



[16] ، ولم تعتبر فقها الوظيفـة القضـائية مستقلـة عن الوظيفة التنفيذية

[17] ، فإن استقلال القضاء والقضاة كان موفورا إلى حد بعيد كما مر. [ ص: 130 ]

بل لقد شهد التاريخ الإسلامي قضاة كثيرين أصدروا أحكاما ضد الخلفاء والولاة، ولم يسمح كثير من القضاة للخلفاء والولاة التدخل في عملهم.

من ذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خاصم يهوديا إلى قاضيه شريح في درع له سقطت منه فأخذها اليهودي، فوجده يبيعها في السوق، فذهب معه إلى القاضي وأبدى قضيته وطرح أدلته، ولكن القاضي لم يقتنع بالأدلة، وقضى بالدرع لليهـودي. فما كان من علي رضي الله عنه إلا أن أذعن لحـكم القاضي [18] . ولم يجد رضي الله عنه - وهو أمير للمؤمنين- في ذلك أي نقيصة أو غضاضة، بل كان ذلك يصمهم بالعدالة والنـزاهة، ويضمن للرعية المساواة.

وذكر بعضهم أن قاضي المدينة محمد بن عمران الطلحي [19] ، عندما أقام الجمالون الدعوى على الخليفة أبي جعفر المنصور، سأله المنادي بأي شيء أنادي: أبالخلافة أم باسمه؟ قال: باسمه، فناداه فتقدم إليه، فقضى عليه [20] .

ومن صـور رفض القضاة التدخل في القضاء، أن المنصور كتب إلى سوار بن عبد الله [21] قاضي البصرة: انظر الأرض التي تخاصم فيها فلان القائد [ ص: 131 ] وفلان التاجر، فادفعـها إلى القـائد. فكتب إليه سوار: إن البينـة قد قامت عندي أنـها للتاجر، فلست أخرجها من يده إلا ببينة. فكتب إليه المنصور، والله الذي لا إله إلا هو لتدفعنها إلى القائد. فكتب إليه سوار، والله الذي لا إله إلا هو لا أخرجها من يد التاجر إلا بحق، فلما جاءه الكتاب قال: ملأتها والله عدلا، وصار قضاتي تردني إلى الحق [22] .

والأخبار في هذا كثـيرة يضيق بذكرها المجـال، ولكن غايتها أن استقلال القضـاء في التاريخ الإسلامي كان واقعا، فالكل أمام القضاء سواء من أجل إقامة نظام العـدل وإرجاع الحقوق إلى أصحابها. ومن قبل فصل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وظيفة القاضي عن سلـطان الوالي عندما تدخل معاوية ابن أبي سفيان في عمل قاضيه عبادة بن الصامت، رضي الله عنهما. فكتب إليه عمر: "لا إمرة لك على عبادة" [23] .

ونقل عن أشهب قوله: "إن من واجبات القاضي أن يكون مستخفا بالأئمة" [24] ، أي مستخفا بتوسطاتهم في النوازل وشفاعتهم فيها، وفي إنفاذ الحق عليهم وعلى ذويهم، وليس المراد أنه مستخف بحقوقهم من تقرير الطاعة العامة [25] . [ ص: 132 ]

هكذا إذا بدا حرص الشريعة الإسلامية على تكريس استقلالية القاضي، فلم تسمح لأي كان أن يتدخل في أحكام القاضي إذا لم تخرج عن ثوابت النصوص، حسما لمادة النـزاع. فكل تدخل مهما كان مصدره كفيل بأن يخل بميزان العدل.

وكانت غاية كل ذلك، هو إشاعة روح الثقة والاطمئنان في نفوس المتقاضين إلى أن يتم الفصل في دعاويهم وأقضيتهم بإرادة من القاضي وحده، بعيدا عن كافة الأهواء.

وإذا كانت الشريعة الإسلامية، وهي تساير روح العدالة، قد اعترفت للقاضي بحقـه في ممارسة العمل القضـائي، وألزمته فقط بالخضوع للنص [26] ، إلا أن ذلك لا يعني أنها فصلت بين العمل القضائي والسلطة التنفيذية. ويبدو هذا واضحا في رسالة عمر بن الخطـاب رضي الله عنه إلى شريح "ما في كتاب الله وقضاء النبي صلى الله عليه وسلم فاقض به، فإذا أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يقض به النبي صلى الله عليه وسلم فما قضى به أئمة العدل، فأنت بالخيار، إن شئت أن تجتهد رأيك، وإن شئت أن تؤامرني، ولا أرى مؤامرتك إياي إلا أسلم لك" [27] .

واعتقادي أن نظـام المشورة هذا لا يلزم القاضي بالرجوع إلى الحاكم، ولا يحد من استقلاله بقدر ما يمد جسور التواصل بين كلا السلطتين، ويسعى إلى توطيد العلاقة بين القضاة والخلفاء حال ممارسة العمل القضائي على نحو يحقق مقاصد الشريعة وأهدافها. [ ص: 133 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية