الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ولو قتل قتيلا خطأ ثم قطعت يده ثم قتل قتيلا آخر خطأ فأرش يده يسلم لولي الجناية الأولى ; لأن حقه كان متعلقا بجميع أجزائه وقت الجناية ، والأرش بدل الجزء ، فيقوم مقامه فيسلم له ، فأما حق الثاني فلم يتعلق بالجزء لانعدامه وقت الجناية ، ثم يدفع العبد فيكون بين ولي الجنايتين على تسعة ، وثمانين جزءا ; لأن موضوع المسألة فيما إذا كانت قيمة العبد ألف درهم فنقول : حق ولي كل جناية في عشرة آلاف ، وقد استوفى ولي الجناية الأولى من حقه خمسمائة فيجعل كل خمسمائة سهما فيكون كل العبد أربعين سهما ، حق كل واحد منهما في عشرين ، وقد أخذ ولي الجناية الأولى من حقه خمسمائة ، أو بقي حقه في تسعة عشر سهما ولم يأخذ ولي الجناية الثانية شيئا ، فبقي حقه في عشرين جزءا من العبد .

                                                                                                                                وإن اختار الفداء فدى عن كل واحد من الجنايتين بعشرة آلاف ; لأن ذلك أرشها .

                                                                                                                                ولو شج إنسانا موضحة ، وقيمته ألف درهم ثم قتل آخر ، وقيمته ألفان ، فإن اختار الفداء فدى عن كل واحدة من الجنايتين بأرشها ، وإن اختار الدفع دفعه مقسوما بينهما على أحد وعشرين سهما : سهم لصاحب الموضحة ، وعشرون لولي القتيل ; لما ذكرنا أن قسمة العبد بينهما على قدر تعلق حق كل واحد منهما به ، وصاحب الموضحة حقه في خمسمائة .

                                                                                                                                وحق ولي القتيل في عشرة آلاف فيجعل كل خمسمائة سهما ، فتكون القسمة على أحد وعشرين ، وما حدث من زيادة القيمة للعبد ، والزيادة على الشركة أيضا ; لأنها صفة الأصل ، وإذا ثبتت الشركة في الأصل ثبتت في الصفة ، وكذلك لو قتل إنسانا خطأ ، وقيمته وقت القتل ألفان ثم عمي بعد القتل قبل الشجة ثم شج إنسانا موضحة كانت القسمة بينهما على أحد وعشرين .

                                                                                                                                وما حدث فيه من النقصان فهو على الشركة أيضا لما قلنا ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                                                                                                                ولو جنى جناية ففداه المولى ثم جنى جناية أخرى خير المولى بين الدفع ، والفداء ; لأنه لما فدى فقد طهر العبد عن الجناية ، وصار كأنه لم يجن ، فإذا جنى بعد ذلك فهذه جناية مبتدأة ، فيبتدأ بحكمها ، وهو الدفع أو الفداء ، بخلاف ما إذا جنى ثم جنى جناية أخرى قبل اختيار الفداء أنه يدفع إليهما جميعا أو يفدي ; لأنه لما لم يفد للأولى حتى جنى ثانيا فحق كل واحد منهما تعلق بالعبد ، فيدفع إليهما أو يفدي ، ولو قتل العبد رجلا وله وليان فدفعه المولى إلى أحدهما فقتل عبده رجلا آخر ثم حضروا ، يقال للمدفوع إليه ادفع نصف العبد إلى ولي القتيل الثاني أو نصف الدية .

                                                                                                                                وأما النصف الآخر فيؤمر بالرد على المولى بين الدفع إلى ولي الجناية الثانية ، وولي الجناية الأولى الذي لم يدفع إليه .

                                                                                                                                ( أما ) وجوب دفع نصف العبد على المدفوع إليه إلى ولي القتيل الثاني أو الفداء فلأنه ملك نصف العبد بالدفع ، فيخير في جنايته بين الدفع والفداء .

                                                                                                                                ( وأما ) وجوب رد نصف العبد إلى المولى فلأنه أخذه بغير حق فعليه رده لقوله عليه الصلاة والسلام { على اليد ما أخذت حتى ترده } ولا يخير المولى في النصف بين الدفع إلى ولي الجنايتين وبين الفداء ; لأن وقت الجناية الأولى كان كل العبد على ملكه ، ووقت وجود الثانية كان نصفه على ملكه فيوجب الدفع أو الفداء [ ص: 262 ] فإن اختار الفداء فدى لكل واحد منهما بنصف الدية ، وإن دفع دفع نصف العبد إليهما نصفين ; لأن الدفع على قدر تعلق الحق ، وحق كل واحد منهما تعلق بنصف ، فيكون نصف العبد بينهما نصفين ، وقد كان ، وصل النصف إلى ولي الجناية الثانية من جهة المدفوع إليه ، ووصل إليه بالدفع من المولى الربع فسلم له ثلاثة أرباع العبد ، وسلم لولي الجناية الأولى الذي لم يدفع إليه العبد الربع ، فصار العبد بينهما أرباعا : ثلاثة أرباعه لولي الجناية الثانية ، وربعه لولي الجناية الأولى ، وبقي إلى تمام حقه الربع ، ثم لا يخلو إما أن كان المولى دفع كل العبد بقضاء القاضي أو بغير قضاء القاضي ، فإن كان الدفع بقضاء لا يضمن المولى ; لأن الدفع إذا كان بقضاء كان هو مضطرا في الدفع فلا يضمن ، ولا سبيل إلى تضمين القاضي ; لأن القاضي فيما يصنع أمين فلا تلحقه العهدة ، ويضمن القابض ; لأنه قبض نصيب صاحبه بغير حق ، والقبض بغير حق سبب لوجوب الضمان كقبض الغصب ، ولا يخرج عن الضمان بالرد إلى المولى ; لأنه لم يرده على الوجه الذي قبض العبد فارغا ، ورده مشغولا ، وإن كان الدفع بغير قضاء القاضي فولي الجناية الذي لم يدفع إليه العبد بالخيار : إن شاء ضمن الولي ربع قيمة العبد ، وإن شاء ضمن القابض ; ليسلم له نصف العبد ، ربعه لحم ودم ، وربعه دراهم ودنانير ; لأنه وجد سبب وجوب الضمان في حق كل واحد منهما : الدفع من المولى ، والقبض من القابض ، فإن اختار تضمين المولى فالمولى يرجع على القابض ، وإن اختار تضمين القابض لا يرجع على المولى ; لأن حاصل الضمان عليه .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية