الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) بيان ما تجب فيه الدية فقد اختلف أصحابنا فيه ، قال أبو حنيفة رحمه الله : الذي تجب منه الدية وتقضى منه ثلاثة أجناس : الإبل والذهب والفضة ، وعندهما ستة أجناس : الإبل والذهب والفضة والبقر والغنم والحلل ، واحتجا بقضية سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فإنه روي أنه قضى بالدية من هذه الأجناس [ ص: 254 ] بمحضر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، ولأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه قوله عليه الصلاة والسلام { في النفس المؤمنة مائة من الإبل } جعل عليه الصلاة والسلام الواجب من الإبل على الإشارة إليها ، فظاهره يقتضي الوجوب منها على التعيين ، إلا أن الواجب من الصنفين الأخيرين ثبت بدليل آخر ، فمن ادعى الوجوب من الأصناف الأخر فعليه الدليل .

                                                                                                                                وأما قضية سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فقد قيل : إنه إنما قضى بذلك حين كانت الديات على العواقل ، فلما نقلها إلى الديوان قضى بها من الأجناس الثلاثة .

                                                                                                                                وذكر في كتاب المعاقل ما يدل على أنه لا خلاف بينهم ، فإنه قال : لو صالح الولي على أكثر من مائتي بقرة ومائتي حلة لم يجز بالإجماع ، ولو لم يكن ذلك من جنس الدية لجاز ، والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                وأما بيان مقدار الواجب من كل جنس ، وبيان صفته فقدر الواجب من كل جنس يختلف بذكورة المقتول وأنوثته ، فإن كان ذكرا فلا خلاف ، في أن الواجب بقتله من الإبل مائة لقوله عليه الصلاة والسلام { في النفس المؤمنة مائة من الإبل } ولا خلاف أيضا في أن الواجب من الذهب ألف دينار لما روي أنه عليه الصلاة والسلام جعل { دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار } ، والتقدير في حق الذمي يكون تقديرا في حق المسلم من طريق الأولى .

                                                                                                                                وأما الواجب من الفضة فقد اختلف فيه ، قال أصحابنا رحمهم الله تعالى : عشرة آلاف درهم وزنا وزن سبعة .

                                                                                                                                وقال مالك ، والشافعي رحمهما الله : اثنا عشر ألفا ، والصحيح قولنا لما روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال الدية عشرة آلاف درهم بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ، ولم ينقل أنه أنكر عليه أحد ، فيكون إجماعا مع ما أن المقادير لا تعرف إلا سماعا فالظاهر أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدر الواجب من البقر عندهما مائتا بقرة ، ومن الحلل مائتا حلة ، ومن الغنم ألفا شاة ، ثم دية الخطأ من الإبل أخماس بلا خلاف ، عشرون بنت مخاض ، وعشرون ابن مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وهذا قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقد رفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال { دية الخطأ أخماس عشرون بنات مخاض ، وعشرون بنو مخاض ، وعشرون بنو لبون ، وعشرون حقة ، وعشرون جذعة } ، وعندهما قدر كل بقرة خمسون درهما ، وقدر كل حلة خمسون درهما ، والحلة اسم لثوبين إزار ورداء ، وقيمة كل شاة خمسة دراهم .

                                                                                                                                ودية شبه العمد أرباع ، عندهما خمس وعشرون بنت مخاض ، وخمس وعشرون بنت لبون ، وخمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون جذعة ، وهو مذهب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وعند محمد أثلاث ، ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة .

                                                                                                                                وأربعون ما بين ثنية إلى بازل عامها كله خلفة ، وهو مذهب سيدنا عمر ، وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهما ، وعن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال : في شبه العمد أثلاث ثلاثة وثلاثون حقة ، وثلاثة وثلاثون جذعة ، وأربعة وثلاثون خلفة ، والصحابة رضي الله عنهم متى اختلفت في مسألة على قولين أو ثلاثة يجب ترجيح قول البعض على البعض ، والترجيح ههنا لقول ابن مسعود رضي الله عنه لوجهين : أحدهما : أنه موافق للحديث المشهور الذي تلقته العلماء رضي الله عنهم بالقبول ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام { في النفس المؤمنة مائة من الإبل } ، وفي إيجاب الحوامل إيجاب الزيادة على المائة ; لأن الحمل أصل من وجه ، والثاني : أن ما قاله أقرب إلى القياس ; لأن الحمل معنى موهوم لا يوقف عليه حقيقة فإن انتفاخ البطن قد يكون للحمل ، وقد يكون للداء ، ونحو ذلك .

                                                                                                                                وإن كان أنثى فدية المرأة على النصف من دية الرجل لإجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي عن سيدنا عمر ، وسيدنا علي ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت رضوان الله تعالى عليهم أنهم قالوا في دية المرأة : إنها على النصف من دية الرجل ، ولم ينقل أنه أنكر عليهم أحد فيكون إجماعا ، ولأن المرأة في ميراثها ، وشهادتها على النصف من الرجل فكذلك في ديتها وهل يختلف قدر الدية بالإسلام ، والكفر ؟ قال أصحابنا رحمهم الله : لا يختلف ودية الذمي والحربي والمستأمن كدية المسلم ، وهو قول إبراهيم النخعي والشعبي رحمهما الله ، والزهري رحمه الله .

                                                                                                                                وقال الشافعي رحمه الله : تختلف دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ، ودية المجوسي ثمانمائة ، واحتج بحديث رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { أنه جعل دية هؤلاء على هذه المراتب } ولأن الأنوثة لما أثرت في نقصان البدل فالكفر أولى ; لأن نقيصة الكفر فوق كل نقيصة .

                                                                                                                                ( ولنا ) قوله تبارك وتعالى { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله } أطلق سبحانه وتعالى [ ص: 255 ] القول بالدية في جميع أنواع القتل من غير فصل فدل أن الواجب في الكل على قدر واحد ( وروينا ) أنه عليه الصلاة والسلام جعل { دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار } ( وروي ) " أن { عمرو بن أمية الضمري قتل مستأمنين فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما بدية حرين مسلمين } ، وعن الزهري رحمه الله أنه قال : قضى سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر رضي الله تعالى عنهما في دية الذمي بمثل دية المسلم ، ومثله لا يكذب .

                                                                                                                                وكذا روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال دية أهل الكتاب مثل دية المسلمين ، ولأن وجوب كمال الدية يعتمد كمال حال القتيل فيما يرجع إلى أحكام الدنيا ، وهي الذكورة ، والحرية ، والعصمة ، وقد وجد ، ونقصان الكفر يؤثر في أحكام الدنيا .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية