الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما محل إقامة هذا الحكم فالكلام فيه في موضعين : أحدهما : في بيان أصل المحل ، ومراعاة الترتيب فيه ، والثاني : في بيان موضع إقامة الحكم منه أما الأول فأصل المحل عند أصحابنا طرفان فقط ، وهما : اليد اليمنى ، والرجل اليسرى فتقطع اليد اليمنى في السرقة الأولى ، وتقطع الرجل اليسرى في السرقة الثانية ، ولا يقطع بعد ذلك أصلا ، ولكنه يضمن السرقة ، ويعزر ، ويحبس حتى يحدث توبة عندنا ، وعند الشافعي - رحمه الله - : الأطراف الأربعة محل القطع على الترتيب : فتقطع اليد اليمنى في المرة الأولى ، وتقطع الرجل اليسرى في المرة الثانية ، وتقطع اليد اليسرى في المرة الثالثة ، وتقطع الرجل اليمنى في السرقة الرابعة ، احتج الشافعي - رحمه الله - بقوله تعالى { ، والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } ، والأيدي اسم جمع ، والاثنان فما فوقهما جماعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الله تعالى { : إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } ، وأنه لم يكن لكل واحد إلا قلب واحد إلا أن الترتيب في قطع الأيدي ثبت بدليل آخر .

                                                                                                                                وهذا لا يخرج اليد اليسرى من أن تكون محلا للقطع في الجملة ، وروي أن - سيدنا - أبا بكر رضي الله عنه قطع سارق حلي أسماء ، وكان أقطع اليد ، والرجل .

                                                                                                                                ( ولنا ) ما روي أن - سيدنا - عليا رضي الله عنه أتي بسارق فقطع يده ، ثم أتي به الثانية وقد سرق فقطع رجله ، ثم أتي به الثالثة وقد سرق فقال : لا أقطعه إن قطعت يده فبأي شيء يأكل بأي شيء يتمسح ، وإن قطعت رجله بأي شيء يمشي إني لأستحي من الله فضربه بخشبة ، وحبسه .

                                                                                                                                وروي أن - سيدنا - عمر رضي الله عنه أتي بسارق أقطع اليد ، والرجل قد سرق نعالا يقال له سدوم ، وأراد أن يقطعه فقال له - سيدنا - علي رضي الله عنه إنما عليه قطع يد ورجل فحبسه - سيدنا - عمر رضي الله عنه ولم يقطعه ، وسيدنا عمر وسيدنا علي رضي الله عنهما لم يزيدا في القطع على قطع اليد اليمنى ، والرجل اليسرى ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ، ولم ينقل أنه أنكر عليهما منكر ; فيكون إجماعا من الصحابة رضي الله عنهم .

                                                                                                                                ( ولنا ) أيضا دلالة الإجماع ، والمعقول ، أما دلالة الإجماع فهي أنا أجمعنا على أن اليد اليمنى إذا كانت مقطوعة لا يعدل إلى اليد اليسرى ، بل إلى الرجل اليسرى ، ولو كان لليد اليسرى مدخلا في القطع لكان لا يعدل إلا إليها ; لأنها منصوص عليها ، ولا يعدل عن المنصوص عليه إلى غيره فدل العدول إلى الرجل اليسرى لا إليها على أنه لا مدخل لها في القطع بالسرقة أصلا .

                                                                                                                                وهذا النوع من الاستدلال ذكره الكرخي - رحمه الله - وأما المعقول فهو أن في قطع اليد اليسرى تفويت جنس منفعة من منافع النفس أصلا ، وهي منفعة البطش ; لأنها تفوت بقطع اليد اليسرى بعد قطع اليمنى فتصير النفس في حق هذه المنفعة هالكة ، فكان قطع اليد اليسرى إهلاك النفس من وجه ، وكذا قطع الرجل اليمنى بعد قطع الرجل اليسرى تفويت منفعة المشي ; لأن منفعة المشي تفوت بالكلية ، فكان قطع الرجل اليمنى إهلاك النفس من كل وجه ، وإهلاك النفس من كل وجه لا يصلح حدا في السرقة ، كذا إهلاك النفس من وجه ; لأن الثابت من وجه ملحق بالثابت من كل وجه في الحدود احتياطا ، ولا حجة له في الآية الشريفة ; لأن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ " فاقطعوا أيمانهما " ، ولا يظن بمثله أن يقرأ ذلك من تلقاء نفسه .

                                                                                                                                بل سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت قراءته مخرج التفسير لمبهم الكتاب العزيز ، وهكذا روي عن عبد الله بن عباس [ ص: 87 ] رضي الله عنهما في قوله - عز وجل - { فاقطعوا أيديهما } أنه قال أيمانهما ، وهكذا روي عن الحسن ، وإبراهيم - رحمهما الله - وأما حديث لا قطع فقد روى الزهري في الموطأ عن - سيدتنا - عائشة رضي الله عنها أنها قالت لما كان الذي سرق حلي أسماء أقطع اليد اليمنى فقطع - سيدنا - أبو بكر رضي الله عنه رجله اليسرى ، وكانت تنكر أن يكون أقطع اليد ، والرجل ، ثم إنما تقطع يده اليمنى في الكرة الأولى إذا كانت اليد اليسرى صحيحة يمكنه أن ينتفع بها بعد قطع اليد اليمنى .

                                                                                                                                والرجل اليمنى صحيحة يمكنه الانتفاع بها بعد قطع الرجل اليسرى ، فإن كانت اليد اليسرى مقطوعة ، أو شلاء ، أو مقطوعة الإبهام ، أو أصبعين سوى الإبهام لا تقطع اليد اليمنى ; لأن القطع في السرقة شرع زاجرا لا مهلكا ، فإذا لم تكن اليد اليسرى يمكن الانتفاع بها ; فقطع اليد اليمنى يقع تفويتا لجنس المنفعة ، وهي منفعة البطش أصلا فيقع إهلاكا للنفس من وجه فلا تقطع ، ولا يقطع رجله اليسرى أيضا ; لأنه يذهب أحد الشقين على الكمال فيهلك النفس من وجه ولو كانت اليد اليسرى مقطوعة أصبع واحدة سوى الإبهام تقطع يده اليمنى ; لأن القطع لا يتضمن فوات جنس المنفعة .

                                                                                                                                وكذا إن كانت الرجل اليمنى مقطوعة ، أو شلاء ، أو بها عرج يمنع المشي عليها لا تقطع اليد اليمنى ; لما فيه من فوات الشق ، ولا رجله اليسرى ، وإن كانت صحيحة ; لأنه يبقى بلا رجلين فيفوت جنس المنفعة ولو كانت رجله اليمنى مقطوعة الأصابع كلها فإن كان يستطيع القيام ، والمشي عليها تقطع يده اليمنى ; لأن الجنس لا يفوت ، وإن كان لا يستطيع لا يقطع لفوات الشق ولو كانت يداه صحيحتين ، ولكن رجله اليسرى مقطوعة ، أو شلاء أو مقطوعة الإبهام أو الأصابع تقطع يده اليمنى ; لأن جنس المنفعة لا يفوت ، ولا فيه فوات الشق أيضا .

                                                                                                                                ولو سرق ويمناه شلاء ، أو مقطوعة الإبهام ، أو الأصابع لقوله - سبحانه وتعالى - { فاقطعوا أيديهما } أي : أيمانهما من غير فصل بين يمين ، ويمين ، ولأنها لو كانت سليمة تقطع فالناقصة المعيبة أولى بالقطع ، ثم فرق بين القطع في السرقة ، وبين الإعتاق في الكفارة حيث جعل فوات إصبعين سوى الإبهام من اليد اليسرى نقصانا مانعا من قطع اليد اليمنى ، ولم يجعل فوات إصبعين نقصانا مانعا من جواز الإعتاق ما لم يكن ثلاثا .

                                                                                                                                ( وجه ) الفرق : أن القطع حد فهذا القدر من النقصان يورث شبهة ، بخلاف العتق ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم ولو قال الحاكم للحداد اقطع يد السارق فقطع اليد اليسرى فهذا على ، وجهين : إما أن قال اقطع يده مطلقا ، وإما أن قيده فقال : اقطع يده اليمنى فإن أطلق فقال : له اقطع يده فقطع اليسرى لا ضمان عليه للحال ; لأنه فعل ما أمر به حيث أمره بقطع اليد ، وقد قطع اليد ، وإن قيد فقال : اقطع يده اليمنى فقطع اليسرى فإن أخرج السارق يده ، وقال هذا هو يميني فلا ضمان عليه أيضا ; لأنه قطع بأمره فلا يضمن كمن قال لآخر اقطع يدي فقطعه لا ضمان عليه كذا هذا ، وإن لم يخرج السارق يده ، ولم يقل ذلك ، ولكنه قطع اليسرى خطأ لا ضمان عليه عند أصحابنا رضي الله عنهم ، وعند زفر رضي الله عنه يضمن ; لأن الخطأ في حقوق العباد ليس بعذر .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن هذا خطأ في الاجتهاد ; لأنه أقام اليسار مقام اليمين باجتهاده متمسكا بظاهر قوله - سبحانه وتعالى - { فاقطعوا أيديهما } من غير فصل بين اليمين ، واليسار ، فكان هذا خطأ من المجتهد في الاجتهاد ، وأنه موضوع ، وموضوع المسألة في هذا الخطأ لا فيما إذا أخطأ فظن اليسار يمينا مع اعتقاد وجوب قطع اليمين مع ما أن عند أبي حنيفة - رحمه الله - : لا يضمن هناك أيضا على ما نبين ، وإن قطع اليسرى عمدا لا ضمان عليه أيضا عند أبي حنيفة ، وعندهما يضمن لهما أنه تعمد الظلم بإقامة اليسار مقام اليمين فلم يكن معذورا فيضمن ، ولأبي حنيفة رضي الله عنه أنه أتلف ، وأخلف خيرا مما أتلف ، فلا يضمن كرجلين شهدا على رجل ببيع عبد قيمته ألف بألفين ، ثم رجعا أنهما لا يضمنان ; لما قلنا كذا هذا .

                                                                                                                                وإنما قلنا : إنه أخلف خيرا مما أتلف ; لأنه لما قطع اليسرى فقد سلمت له اليمنى ; لأنها لا تقطع بعد ذلك ; لأنه لا يؤتى على أطرافه الأربعة ، واليمنى خير من اليسرى ثم على قول أبي حنيفة - عليه الرحمة - هل يكون هذا القطع - وهو قطع اليسرى - قطعا من السرقة حتى إذا هلك المال في يد السارق ، أو استهلكه لا يضمن ، أو لا يكون من السرقة حتى يضمن ؟ اختلف المشايخ فيه قال بعضهم : يكون ، وقال بعضهم : لا يكون هذا كله إذا قطع الحداد بأمر الحاكم ، فأما الأجنبي إذا قطع يده اليسرى فإن كان خطأ تجب الدية ، وإن كان عمدا يجب القصاص ، وسقط عنه القطع في اليمين ; لأنه لو قطع يؤدي إلى إهلاك النفس من ، وجه على ما بينا [ ص: 88 ]

                                                                                                                                ويرد عليه المسروق إن كان قائما ، وعليه ضمانه في الهلاك ; لأن المانع من الضمان هو القطع وقد سقط ، ولو وجب عليه قطع اليد اليمين في السرقة فلم تقطع حتى قطع قاطع يمينه فهذا على وجهين : إما أن يكون قبل الخصومة ، وإما أن يكون بعدها ، فإن كان قبل الخصومة فعلى قاطعه القصاص إن كان عمدا ، والأرش إن كان خطأ ، وتقطع رجله اليسرى في السرقة كأنه سرق ، ولا يمين له ، وإن كان بعد الخصومة فإن كان قبل القضاء فكذلك الجواب ، إلا أنا ههنا لا نقطع رجله اليسرى ; لأنه لما خوصم كان الواجب في اليمين وقد فاتت ; فسقط الواجب كما لو ذهب بآفة سماوية ، وإن كان بعد القضاء فلا ضمان على القاطع ; لأنه احتسب لإقامة حد الله - سبحانه وتعالى - فكان قطعه عن السرقة حتى لا يجب الضمان على السارق فيما هلك من مال السرقة في يده ، أو استهلك .

                                                                                                                                وأما الموضع الذي يقطع من اليد اليمنى فهو مفصل الزند عند عامة العلماء رضي الله عنهم .

                                                                                                                                وقال بعضهم تقطع الأصابع ، وقال الخوارج : تقطع من المنكب لظاهر قوله سبحانه وتعالى { فاقطعوا أيديهما } ، واليد اسم لهذه الجملة ، والصحيح قولنا ; لما روي أنه عليه الصلاة والسلام { قطع يد السارق من مفصل الزند } ، فكان فعله بيانا للمراد من الآية الشريفة كأنه نص - سبحانه وتعالى - فقال : { فاقطعوا أيديهما } من مفصل الزند ، وعليه عمل الأمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية