الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( ومنها ) أن يكون محرزا مطلقا خاليا عن شبهة العدم مقصودا بالحرز ، والأصل في اعتبار شرط الحرز ما روي في الموطإ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال { : لا قطع في ثمر معلق ، ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراح ، أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن } .

                                                                                                                                وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال { : لا قطع في ثمر ، ولا كثر حتى يؤويه الجرين ، فإذا آواه الجرين ففيه القطع } علق عليه الصلاة والسلام القطع بإيواء المراح ، والمراح حرز الإبل ، والبقر ، والغنم ، والجرين حرز الثمر فدل أن الحرز شرط ، ولأن ركن السرقة هو الأخذ على سبيل الاستخفاء ، والأخذ من غير حرز لا يحتاج إلى الاستخفاء فلا يتحقق ركن السرقة ; لأن القطع وجب لصيانة الأموال على أربابها قطعا لأطماع السراق عن أموال الناس .

                                                                                                                                والأطماع إنما تميل إلى ما له خطر في القلوب ، وغير المحرز لا خطر له في القلوب عادة ، فلا تميل الأطماع إليه فلا حاجة إلى الصيانة بالقطع ، وبهذا لم يقطع فيما دون النصاب ، وما ليس بمال متقوم محتمل الادخار ، ثم الحرز نوعان : حرز بنفسه ، وحرز بغيره .

                                                                                                                                ( أما ) الحرز بنفسه فهو : كل بقعة معدة للإحراز ممنوعة الدخول فيها إلا بالإذن : كالدور ، والحوانيت ، والخيم ، والفساطيط ، والخزائن ، والصناديق .

                                                                                                                                ( وأما ) الحرز بغيره : فكل مكان غير معد للإحراز يدخل إليه بلا إذن ، ولا يمنع منه كالمساجد ، والطرق ، وحكمه حكم الصحراء إن لم يكن هناك حافظ .

                                                                                                                                وإن كان هناك حافظ فهو حرز ; لهذا سمي حرزا بغيره حيث وقف صيرورته حرزا على وجود غيره ، وهو الحافظ ، وما كان حرزا بنفسه لا يشترط فيه وجود الحافظ لصيرورته حرزا ، ولو وجد فلا عبرة بوجوده ، بل وجوده ، والعدم سواء ، وكل واحد من الحرزين معتبر بنفسه على حياله بدون صاحبه ; لأنه عليه الصلاة والسلام علق القطع بإيواء المراح ، والجرين من غير شرط وجود الحافظ .

                                                                                                                                وروي أن { صفوان رضي الله عنه كان نائما في المسجد متوسدا بردائه فسرقه سارق من تحت رأسه فقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعتبر الحرز بنفسه } فدل أن كل واحد من نوعي الحرز معتبر بنفسه ، فإذا سرق من النوع الأول يقطع سواء كان ثمة حافظ ، أو لا لوجود الأخذ من الحرز .

                                                                                                                                وسواء كان مغلق الباب ، أو لا باب له بعد أن كان محجوزا بالبناء ; لأن البناء يقصد به الإحراز كيف ما كان ، وإذا سرق من النوع الثاني يقطع إذا كان الحافظ قريبا منه في مكان يمكنه حفظه ، ويحفظ في مثله المسروق عادة ، وسواء كان الحافظ مستيقظا في ذلك المكان ، أو نائما ; لأن الإنسان يقصد الحفظ في الحالين جميعا ، ولا يمكن الأخذ إلا بفعله ، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم قطع سارق صفوان ، وصفوان كان نائما ولو أذن لإنسان بالدخول في داره فسرق المأذون له بالدخول شيئا منها لم يقطع [ ص: 74 ] وإن كان فيها حافظ ، أو كان صاحب المنزل نائما عليه ; لأن الدار حرز بنفسها لا بالحافظ ، وقد خرجت من أن تكون حرزا بالإذن فلا يعتبر وجود الحافظ ; ولأنه لما أذن له بالدخول فقد صار في حكم أهل الدار .

                                                                                                                                فإذا أخذ شيئا فهو خائن قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { : لا قطع على خائن } ، وكذلك لو سرق من بعض بيوت الدار المأذون في دخولها ، وهو مقفل ، أو من صندوق في الدار ، أو من صندوق في بعض البيوت ، وهو مقفل عليه إذا كان البيت من جملة الدار المأذون في دخولها ; لأن الدار الواحدة حرز واحد قد خرجت بالإذن له من أن تكون حرزا في حقه فكذلك بيوتها ، وما روي أن أسود بات عند سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه فسرق حليا لهم فيحتمل أن يكون مسروقا من دار النساء لا من دار الرجال ، والداران المختلفان إذا أذن بالدخول في إحداهما لا تصير الأخرى مأذونا بالدخول فيها ، والمحتمل لا يكون حجة .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف أنه قال في رجل كان في حمام ، أو خان ، وثيابه تحت رأسه فسرقها سارق : إنه لا قطع عليه ، سواء كان نائما أو يقظانا ، وإن كان في صحراء ، وثوبه تحت رأسه قطع ، وكذلك روي عن محمد في رجل سرق من رجل ، وهو معه في الحمام ، أو سرق من رجل ، وهو معه في سفينة ، أو نزل قوم في خان فسرق بعضهم من بعض أنه لا قطع على السارق ، وكذلك الحانوت ; لأن الحمام ، والخان ، والحانوت كل واحد حرز بنفسه ، فإذا أذن للناس في دخوله خرج من أن يكون حرزا فلا يعتبر فيه الحافظ فلا يصير حرزا بالحافظ ; ولهذا قالوا : إذا سرق من الحمام ليلا يقطع ; لأن الناس لم يؤذنوا بالدخول فيه ليلا فأما الصحراء ، أو المسجد - وإن كان مأذون الدخول إليه - فليس حرزا بنفسه ، بل بالحافظ ، ولم يوجد الإذن من الحافظ فلا يبطل معنى الحرز فيه .

                                                                                                                                وقالوا في السارق من المسجد : إذا كان ثمة حافظ يقطع ، وإن لم يخرج من المسجد ; لأن المسجد ليس بحرز بنفسه ، بل بالحافظ ، فكانت البقعة التي فيها الحافظ هي الحرز لا كل المسجد فإذا انفصل منها فقد انفصل من الحرز فيقطع .

                                                                                                                                ( فأما ) الدار ، فإنما صارت حرزا بالبناء ، فما لم يخرج منها لم يوجد الانفصال من الحرز ، وروي عن محمد في رجل سرق في السوق من حانوت فتخرب الحانوت ، وقعد للبيع ، وأذن للناس بالدخول فيه أنه لم يقطع ، وكذلك لو سرق منه ، وهو مغلق على شيء لم يقطع لأنه لما أذن للناس بالدخول فيه فقد أخرج الحانوت من أن يكون حرزا في حقهم ، وكذلك إن أخذ من بيت قبة ، أو صندوق فيه مقفل ; لأن الحانوت كله حرز واحد كالدار على ما مر .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف - رحمه الله - أنه قال في رجل بأرض فلاة ، ومعه جوالق وضعه ، ونام عنده يحفظه فسرق منه رجل شيئا ، أو سرق الجوالق : فإني أقطعه ; لأن الجوالق بما فيها محرز بالحافظ فيستوي أخذ جميعه ، وأخذ بعضه ، وكذلك إذا سرق فسطاطا ملفوفا قد ، وضعه ، ونام عنده يحفظه أنه يقطع ، وإن كان مضروبا لم يقطع ; لأنه إذا كان ملفوفا كان محرزا بالحافظ كالباب المقلوع إذا كان في الدار فسرقه سارق ، وإذا كان الفسطاط مضروبا كان حرزا بنفسه فإذا سرقه فقد سرق نفس الحرز ، ونفس الحرز ليس في الحرز فلا يقطع كسارق باب الدار ولو كان الجوالق على ظهر دابة فشق الجوالق ، وأخرج المتاع يقطع ; لأن الجوالق حرز ; لما فيه .

                                                                                                                                وإن أخذ الجوالق كما هي لم يقطع ; لأنه أخذ نفس الحرز ، وكذلك إذا سرق الجمل مع الجوالق ; لأن الحمل لا يوضع على الجمل للحفظ ، بل للحمل ; لأن الجمل ليس بمحرز ، وإن ركبه صاحبه فلم يكن الجمل حرزا للجوالق فإذا أخذ الجوالق فقد أخذ نفس الحرز ولو سرق من المراعي بعيرا ، أو بقرة ، أو شاة لم يقطع سواء كان الراعي معها ، أو لم يكن ، وإن سرق من العطن ، أو المراح الذي يأوي إليه يقطع إذا كان معها حافظ ، أو ليس معها حافظ ، غير أن الباب مغلق فكسر الباب ، ثم دخل فسرق بقرة قادها قودا حتى أخرجها أو ساقها سوقا حتى أخرجها ، أو ركبها حتى أخرجها ; لأن المراعي ليست بحرز للمواشي .

                                                                                                                                وإن كان الراعي معها ; لأن الحفظ لا يكون مقصودا من الرعي ، وإن كان قد يحصل به ; لأن المواشي لا تجعل في مراعيها للحفظ ، بل للرعي فلم يوجد الأخذ من حرز ، بخلاف العطن ، أو المراح فإن ذلك يقصد به الحفظ ، ووضع له ، فكان حرزا ، وقال عليه الصلاة والسلام { : في حريسة الجبل غرامة مثليها ، وجلدات نكالا } فإذا أواها المراح ، وبلغت قيمتها ثمن المجن ففيها القطع ، والله تعالى أعلم ، ولا يقطع عبد في سرقة من مولاه مكاتبا كان العبد ، أو مدبرا ، أو تاجرا عليه دين ، أو أم ولد سرقت من مال مولاها ; لأن هؤلاء مأذونون بالدخول في بيوت ساداتهم للخدمة فلم [ ص: 75 ] يكن بيت مولاهم حرزا في حقهم .

                                                                                                                                وذكر في الموطأ أن عبد الله ابن - سيدنا - عمر ، والحضرمي جاءا إلى عمر رضي الله عنه بعبد له فقال : اقطع هذا فإنه سرق فقال : وما سرق قال : مرآة لامرأتي ثمنها ستون درهما فقال - سيدنا - عمر رضي الله عنه : أرسله ليس عليه قطع ، خادمكم سرق متاعكم ، ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر ; فيكون إجماعا ، ولا قطع على خادم قوم سرق متاعهم ، ولا على ضيف سرق متاع من أضافه ، ولا على أجير سرق من موضع أذن له في دخوله ; لأن الإذن بالدخول أخرج الموضع من أن يكون حرزا في حقه ، وكذا الأجير إذا أخذ المتاع المأذون له في أخذه من موضع لم يأذن له بالدخول فيه لم يقطع ; لأن الإذن بأخذ المتاع يورث شبهة الدخول في الحرز ، ولأن الإذن بالأخذ فوق الإذن بالدخول ، وذا يمنع القطع فهذا أولى .

                                                                                                                                ولو سرق المستأجر من المؤاجر ، وكل واحد منهما في منزل على حدة يقطع بلا خلاف ; لأنه لا شبهة في الحرز .

                                                                                                                                وأما المؤاجر إذا سرق من المستأجر فكذلك يقطع في قول أبي حنيفة - عليه الرحمة - وعندهما لا يقطع .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهما : أن الحرز ملك السارق فيورث شبهة في درء الحد ; لأنه يورث شبهة في إباحة الدخول فيختل الحرز فلا قطع .

                                                                                                                                ( وجه ) قول أبي حنيفة : أن معنى الحرز لا تعلق له بالملك إذ هو اسم لمكان معد للإحراز يمنع من الدخول فيه إلا بالإذن ، قد وجد ; لأن المؤاجر ممنوع عن الدخول في المنزل المستأجر من غير إذن فأشبه الأجنبي .

                                                                                                                                ولا قطع على من سرق من ذي رحم محرم عندنا سواء كان بينهما ولاد ، أو لا ، وقال الشافعي : في الوالدين ، والمولودين كذلك فأما في غيرهم فيقطع ، وهو على اختلاف العتق ، والنفقة ، قد ذكرنا المسألة في كتاب العتاق ، والصحيح قولنا ; لأن كل واحد منهما يدخل في منزل صاحبه بغير إذن عادة ، وذلك دلالة الإذن من صاحبه فاختل معنى الحرز ، ولأن القطع بسبب السرقة فعل يفضي إلى قطع الرحم .

                                                                                                                                وذلك حرام ، والمفضي إلى الحرام حرام ولو سرق جماعة فيهم ذو رحم محرم من المسروق لا يقطع واحد منهم عند أبي حنيفة ، وعند أبي يوسف لا يقطع ذو الرحم المحرم ، ويقطع سواه ، والكلام على نحو الكلام فيما تقدم فيما إذا كان فيهم صبي ، أو مجنون ، قد ذكرناه فيما تقدم ولو سرق من ذي رحم غير محرم يقطع بالإجماع ; لأن المباسطة بالدخول من غير استئذان غير ثابتة في هذه القرابة عادة ، وكذا هذه القرابة لا تجب صيانتها عن القطيعة ; ولهذا لم يجب في العتق ، والنفقة ، وغير ذلك .

                                                                                                                                ولو سرق من ذي محرم لا رحم له بسبب الرضاع فقد قال أبو حنيفة ، ومحمد - رحمهما الله - يقطع الذي سرق ممن يحرم عليه من الرضاع كائنا من كان ، وقال أبو يوسف إذا سرق من أمه من الرضاع لا يقطع .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله : أن المباسطة بينهما في الدخول ثابتة عرفا ، وعادة فإن الإنسان يدخل في منزل أمه من الرضاع من غير إذن كما يدخل في منزل أمه من النسب ، بخلاف الأخت من الرضاع ، ولهما أن الثابت بالرضاع ليس إلا الحرمة المؤبدة ، وأنها لا تمنع وجوب القطع كما لو سرق من أم موطوءته ; ولهذا يقطع في الأخت من الرضاع ولو سرق من امرأة أبيه ، أو من زوج أمه ، أو من حليلة ابنه ، أو من ابن امرأته أو بنتها ، أو أمها ينظر إن سرق مالهم من منزل من يضاف السارق إليه من أبيه ، وأمه ، وابنه ، وامرأته لا يقطع بلا خلاف ; لأنه مأذون بالدخول في منزل هؤلاء فلم يكن المنزل حرزا في حقه .

                                                                                                                                وإن سرق من منزل آخر فإن كانا فيه لم يقطع بالإجماع ، وإن كان لكل واحد منهما منزل على حدة اختلف فيه : قال أبو حنيفة - عليه الرحمة - : لا يقطع ، وقال أبو يوسف : يقطع إذا سرق من غير منزل السارق ، أو منزل أبيه أو ابنه ، وذكر القاضي في شرح مختصر الطحاوي قول محمد مع قول أبي يوسف - رحمهم الله - ( وجه ) قولهما : أن المانع هو القرابة ، ولا قرابة بين السارق ، وبين المسروق ، بل كل واحد منهما أجنبي عن صاحبه فلا يمنع وجوب القطع ، كما لو سرق من أجنبي آخر .

                                                                                                                                ( وجه ) قول أبي حنيفة : أن في الحرز شبهة ; لأن حق التزاور ثابت بينه ، وبين قريبه ; لأن كون المنزل لغير قريبه لا يقطع التزاور ، وهذا يورث شبهة إباحة الدخول للزيارة فيختل معنى الحرز ، ولا قطع على أحد الزوجين إذا سرق من مال صاحبه سواء سرق من البيت الذي هما فيه ، أو من بيت آخر ; لأن كل واحد منهما يدخل في منزل صاحبه ، وينتفع بماله عادة ، وذلك يوجب خللا في الحرز ، وفي الملك أيضا ، وهذا عندنا ، وقال الشافعي - رحمه الله - : إذا سرق من البيت الذي هما فيه لا يقطع ، وإن سرق من بيت آخر يقطع ، والمسألة مرت في كتاب الشهادة .

                                                                                                                                وكذلك لو سرق أحد الزوجين من عبد صاحبه ، أو أمته ، أو مكاتبه ، أو سرق عبد أحدهما ، أو أمته ، أو مكاتبه من صاحبه [ ص: 76 ] أو سرق خادم أحدهما من صاحبه لا يقطع ; لأنه مأذون في الدخول في الحرز ولو سرقت امرأة من زوجها ، أو سرق رجل من امرأته ، ثم طلقها قبل الدخول بها فبانت بغير عدة لم يقطع واحد منهما ; لأن الأخذ حين ، وجوده لم ينعقد موجبا للقطع لقيام الزوجية فلا ينعقد عند الإبانة ; لأن الإبانة طارئة ، والأصل أن لا يعتبر الطارئ مقارنا في الحكم ; لما فيه من مخالفة الحقيقة إلا إذا كان في الاعتبار إسقاط الحد وقت الاعتبار وفي الاعتبار ههنا إيجاب الحد فلا يعتبر ولو سرق من مطلقته ، وهي في العدة ، أو سرقت مطلقته ، وهي في العدة لم يقطع واحد منهما سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا ، أو ثلاثا ; لأن النكاح في حال قيام العدة قائم من وجه أو أثره قائم ، وهو العدة ، وقيام النكاح من كل وجه يمنع القطع فقيامه من وجه ، أو قيام أثره يورث شبهة .

                                                                                                                                ولو سرق رجل من امرأة أجنبية ، ثم تزوجها فهذا لا يخلو من أحد ، وجهين : ( إما ) أن تزوجها قبل أن يقضى عليه بالقطع ، وإما أن تزوجها بعدما قضي عليه بالقطع فإن تزوجها قبل أن يقضى عليه بالقطع ; لم يقطع بلا خلاف ; لأن هذا مانع طرأ على الحد ، والمانع الطارئ في الحد كالمقارن ; لأن الحدود تدرأ بالشبهات فيصير طريان الزوجية شبهة مانعة من القطع كقرانها ، وإن تزوجها بعد ما قضي بالقطع لم يقطع عند أبي حنيفة - رحمه الله - وقال أبو يوسف : يقطع .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله : أن الزوجية القائمة عند السرقة إنما تمنع وجوب القطع باعتبار الشبهة ، وهي شبهة عدم الحرز ، أو شبهة الملك فالطارئة لو اعتبرت مانعة لكان ذلك اعتبار الشبهة ، وإنها ساقطة في باب الحدود .

                                                                                                                                ( وجه ) قول أبي حنيفة : أن الإمضاء في باب الحدود من القضاء فكانت الشبهة المعترضة على الإمضاء كالمعترضة على القضاء ألا ترى أنه لو قذف رجلا بالزنا ، وقضي عليه بالحد ، ثم إن المقذوف زنى قبل إقامة الحد على القاذف سقط الحد عن القاذف ، وجعل الزنا المعترض على الحد كالموجود عند القذف ليعلم أن الطارئ على الحدود قبل الإمضاء بمنزلة الموجود قبل القضاء ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                وذكر في الجامع الصغير في الطرار إذا طر الصرة من خارج الكم أنه لا قطع عند أبي حنيفة - رحمه الله - فإن أدخل يده في الكم فطرها ; يقطع ، وقال أبو يوسف هذا كله سواء ، ويقطع ، وبتفصيل الكلام فيه يرتفع الخلاف ، ويتفق الجواب ، وهو أن الطر لا يخلو إما أن يكون بالقطع ، وإما أن يكون بحل الرباط ، والدراهم لا تخلو إما أن كانت مصرورة على ظاهر الكم ، وإما أن كانت مصرورة في باطنه ، فإن كان الطر بالقطع ، والدراهم مصرورة على ظاهر الكم لم يقطع ; لأن الحرز هو الكم .

                                                                                                                                والدراهم بعد القطع تقع على ظاهر الكم فلم يوجد الأخذ من الحرز ، وعليه يحمل قول أبي حنيفة - رحمه الله - وإن كانت مصرورة في داخل الكم يقطع ; لأنها بعد القطع تقع في داخل الكم ، فكان الطر أخذا من الحرز ، وهو الكم فيقطع ، وعليه يحمل قول أبي يوسف ، وإن كان الطر بحل الرباط ينظر إن كان بحال لو حل الرباط تقع الدراهم على ظاهر الكم بأن كانت العقدة مشدودة من داخل الكم لا يقطع ; لأنه أخذها من غير حرز ، وهو تفسير قول أبي حنيفة - رحمه الله - وإن كان إذا حل تقع الدراهم في داخل الكم ، وهو يحتاج إلى إدخال يده في الكم للأخذ يقطع لوجود الأخذ من الحرز ، وهو تفسير قول أبي يوسف ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                وعلى هذا الأصل أيضا يخرج النباش على أصل أبي حنيفة ، ومحمد - رحمهما الله - أنه لا يقطع ; لأن القبر ليس بحرز بنفسه أصلا إذ لا تحفظ الأموال فيه عادة ألا ترى أنه لو سرق منه الدراهم ، والدنانير لا يقطع ، ولا حافظ للكفن ليجعل حرزا بالحافظ فلم يكن القبر حرزا بنفسه ، ولا بغيره ، أو فيه شبهة عدم الحرز ; لأنه إن كان حرز مثله فليس حرزا لسائر الأموال فتمكنت الشبهة في كونه حرزا فلا يقطع ، ثم اختلف أنه يعتبر في كل شيء حرز مثله ، أو حرز نوعه قال بعض مشايخنا إنه : يعتبر في كل شيء حرز مثله كالإصطبل للدابة ، والحظيرة للشاة حق لو سرق اللؤلؤة من هذه المواضع لا يقطع .

                                                                                                                                وذكر الكرخي في مختصره عن أصحابنا أن ما كان حرز النوع يكون حرزا للأنواع كلها ، وجعلوا سريجة البقال حرزا للجواهر فالطحاوي - رحمه الله - اعتبر العرف ، والعادة ، وقال : حرز الشيء هو المكان الذي يحفظ فيه عادة ، والناس في العادات لا يحرزون الجواهر في الإصطبل ، والكرخي - رحمه الله - اعتبر الحقيقة ; لأن حرز الشيء ما يحرز ذلك الشيء حقيقة ، وسريجة البقال تحرز الدراهم ، والدنانير ، والجواهر حقيقة ، فكانت حرزا لها ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية