الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وعلى هذا يخرج القضاء بكتاب القاضي ، فنقول : لقبول الكتاب من القاضي شرائط ، منها : البينة على أنه كتابه ، فتشهد الشهود على أن هذا كتاب فلان القاضي ، ويذكروا اسمه ونسبه ; لأنه لا يعرف أنه كتابه بدونه ، ومنها : أن يكون الكتاب مختوما ، ويشهدوا على أن هذا ختمه ; لصيانته عن الخلل فيه ، ومنها : أن يشهدوا بما في الكتاب ، بأن يقولوا : إنه قرأه عليهم مع الشهادة بالختم ، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وقال أبو يوسف - رحمه الله - : إذا شهدوا بالكتاب والخاتم تقبل ، وإن لم يشهدوا بما في الكتاب ، وكذا إذا شهدوا بالكتاب وبما في جوفه تقبل ، وإن لم يشهدوا بالخاتم ، بأن قالوا : لم يشهدنا على الخاتم ، أو لم يكن الكتاب مختوما أصلا ، لأبي يوسف : أن المقصود من هذه الشهادة حصول العلم للقاضي المكتوب إليه ، بأن هذا كتاب فلان القاضي ، وهذا يحصل بما ذكرنا .

                                                                                                                                ولهما أن العلم بأنه كتاب فلان ، لا يحصل إلا بالعلم بما فيه ، ولا بد من الشهادة بما فيه ; لتكون شهادتهم على علم بالمشهود به ، ومنها أن يكون بين القاضي المكتوب إليه ، وبين القاضي الكاتب مسيرة سفر ، فإن كان دونه لم تقبل ; لأن القضاء بكتاب القاضي أمر جوز لحاجة الناس بطريق الرخصة ; لأنه قضاء بالشهادة القائمة على غائب ، من غير أن يكون عند خصم حاضر ، لكن جوز للضرورة ، ولا ضرورة فيما دون مسيرة السفر ، ومنها أن يكون في الدين والعين - التي لا حاجة إلى الإشارة إليها عند الدعوى - والشهادة ، كالدور والعقار .

                                                                                                                                وأما في الأعيان التي تقع الحاجة إلى الإشارة إليها ، كالمنقول من الحيوان والعروض ، لا تقبل ، عند أبي حنيفة ، ومحمد - رحمهما الله - [ ص: 8 ] وهو قول أبي يوسف الأول - رحمه الله - ثم رجع وقال : تقبل في العبد خاصة إذا أبق ، وأخذ في بلد ، فأقام صاحبه البينة عند قاضي بلده أن عبده أخذه فلان في بلد كذا ، فشهد الشهود على الملك ، أو على صفة العبد وحليته ، فإنه يكتب إلى قاضي البلد الذي العبد فيه ، أنه قد شهد الشهود عندي ، أن عبدا صفته وحليته كذا وكذا ملك فلان ، أخذه فلان بن فلان .

                                                                                                                                ينسب كل واحد منهما إلى أبيه وإلى جده ، على رسم كتاب القاضي إلى القاضي ، وإذا وصل إلى القاضي المكتوب إليه ، وعلم أنه كتابه بشهادة الشهود ، يسلم العبد إليه ، ويختم في عنقه ، ويأخذ منه كفيلا ، ثم يبعث به إلى القاضي الكاتب ، حتى يشهد الشهود عليه عنده بعينه على الإشارة إليه ، ثم يكتب القاضي الكاتب له ، كتابا آخر إلى ذلك القاضي المكتوب إليه أول مرة ، فإذا علم أنه كتابه قبله وقضى ، وسلم العبد إلى الذي جاء بالكتاب ، وأبرأ كفيله ، ولا يقبل في الجارية بالإجماع .

                                                                                                                                وجه قول أبي يوسف - رحمه الله - أن الحاجة إلى قبول كتاب القاضي في العبد متحققة ; لعموم البلوى به ، فلو لم يقبل ; لضاق الأمر على الناس ; ولضاعت أموالهم ، ولا حاجة إليه في الأمة ; لأنها لا تهرب عادة لعجزها ، وضعف بنيتها وقلبها ، ولهما أن الشهادة لا تقبل إلا على معلوم ; للآية الكريمة { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } والمنقول لا يصير معلوما إلا بالإشارة إليه ، والإشارة إلى الغائب محال ، فلم تصح شهادة الشهود ، ولا دعوى المدعي ; لجهالة المدعي فلا يقبل الكتاب فيه ، ولهذا لم يقبل في الجارية ، وفي سائر المنقولات بخلاف العقار ; لأنه يصير معلوما بالتحديد وبخلاف الدين ; لأن الدين يصير معلوما بالوصف ، وهذا الذي ذكرنا مذهب أصحابنا رضي الله عنهم وقال ابن أبي ليلى - رحمه الله - : يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الكل ، وقضاة زماننا يعملون بمذهبه ; لحاجة الناس ، وينبغي للقاضي المرسل إليه ، أن لا يفك الكتاب إلا بمحضر من الخصم ; ليكون أبعد من التهمة ، ومنها : أن لا يكون في الحدود والقصاص ; لأن كتاب القاضي إلى القاضي ، بمنزلة الشهادة على الشهادة ، وأنه لا تقبل فيهما ، كذا هذا .

                                                                                                                                ومنها : أن يكون اسم المكتوب له وعليه ، واسم أبيه وجده وفخذه مكتوبا في الكتاب ، حتى لو نسبه إلى أبيه ولم يذكر اسم جده ، أو نسبه إلى قبيلة ، كبني تميم ونحوه لا يقبل ; لأن التعريف لا يحصل به ، إلا وأن يكون شيئا ظاهرا مشهورا ، أشهر من القبيلة فيقبل ; لحصول التعريف ، ومنها : ذكر الحدود في الدور والعقار ; لأن التعريف في المحدود لا يصح إلا بذكر الحد ، ولو ذكر في الكتاب ثلاثة حدود ، يقبل عند أصحابنا الثلاثة .

                                                                                                                                وعند زفر - رحمه الله - لا يقبل ما لم يشهدوا على الحدود الأربعة ، ولو شهدوا على حدين لا تقبل بالإجماع ، وإذا كانت الدار مشهورة كدار الأمير وغيره ، لا تقبل عند أبي حنيفة - عليه الرحمة - وعندهما تقبل وهذه من مسائل الشروط ، ومنها : أن يكون القاضي الكاتب على قضائه ، عند وصول كتابه إلى القاضي المكتوب إليه ، حتى لو مات أو عزل قبل الوصول إليه لم يعمل به ، ولو مات بعد وصول الكتاب إليه جاز له أن يقضي به ، ومنها : أن يكون القاضي المكتوب إليه على قضائه ، حتى لو مات أو عزل قبل وصول الكتاب إليه ، ثم وصل إلى القاضي الذي ولي مكانه ، لم يعمل به ; لأنه لم يكتب إليه ، والله تعالى أعلم ، ومنها : أن يكون القاضي الكاتب من أهل العدل .

                                                                                                                                فإن كان من أهل البغي ، لم يعمل به قاضي أهل العدل ، بل يرده كبتا وغيظا لهم ، ومنها : أن يكون لله سبحانه وتعالى خالصا ; لأن القضاء عبادة ، والعبادة إخلاص العمل بكليته لله عز وجل ، فلا يجوز قضاؤه لنفسه ، ولا لمن لا تقبل شهادته له ; لأن القضاء له قضاء لنفسه من وجه ، فلم يخلص لله سبحانه وتعالى ، وكذا إذا قضى في حادثة برشوة ، لا ينفذ قضاؤه في تلك الحادثة ، وإن قضى بالحق الثابت عند الله جلا وعلا من حكم الحادثة ; لأنه إذا أخذ على القضاء رشوة ; فقد قضى لنفسه لا لله عز اسمه ، فلم يصح .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية