44 - ذكر المائدة وصفتها
999 - 1 حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15492الوليد بن أبان ، قال : حدثني
الحسن بن أحمد بن ليث ، حدثنا
جعفر بن علي الحنفي ، وكان من المصلين ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12427إسماعيل بن أبي أويس ، قال : حدثني
أبو عبد الله عبد القدوس بن إبراهيم بن عبيد الله بن مرداس العبدري مولى بني عبد الدار الصنعاني المجدر - يسكن
صنعاء - ، عن
إبراهيم بن عمر ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12081أبي عثمان النهدي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=23سلمان الخير - رضي الله عنه - أنه قال : لما
nindex.php?page=treesubj&link=32016_31988_31847سأل الحواريون عيسى - صلى الله على نبينا وعليه وسلم تسليما - المائدة ، كره ذلك جدا ، وقال : " يا قوم ، اتقوا الله ، واقنعوا بما رزقكم الله تعالى في الأرض ، ولا تسألوا المائدة من السماء ، فإنها إن نزلت عليكم كانت آية [ ص: 1535 ] من ربكم ، وإنما هلكت
ثمود حين سألوا نبيهم آية ، فابتلوا بها حتى كان بوارهم - يعني هلاكهم - ، فأبوا إلا أن تأتيهم ، فلذلك قالوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=113نريد أن نأكل منها ، وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين ) فلما رأى
عيسى - عليه السلام - أنهم قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها ، قال : فألقى عنه الصوف ، ولبس الشعر الأسود جبة من شعر ، وعباءة من شعر ، ثم توضأ واغتسل ، ودخل الصلاة ، وصلى ما شاء الله ، فلما قضى صلاته قام قائما فاستقبل القبلة ، وصف قدميه حتى استويا ، فألصق الكعب بالكعب ، وحاذى الأصابع بالأصابع ، ووضع يده اليمنى على يده اليسرى فوق صدره ، وأغضى بصره ، وطأطأ رأسه خشوعا ، ثم أرسل عينيه بالبكاء ، فما زالت دموعه تسيل على خديه ، وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه من خشوعه ، فلما رأى ذلك دعا الله تعالى ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا ) أي تكون لنا عظة (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114لأولنا وآخرنا وآية منك ، )
[ ص: 1536 ] أي وعلامة منك تكون بيننا وبينك (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114وارزقنا ) عليها طعاما نأكله (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114وأنت خير الرازقين ) قال : فأنزل الله تعالى عليهم سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها ، وغمامة تحتها ، وهم ينظرون إليها في الهواء ، تنقض من ظلل السماء تهوي إليهم ،
وعيسى - عليه السلام - يبكي خوفا للشروط التي اتخذ الله عليهم فيها أنه يعذب من يكفر بها منهم بعد نزولها عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين ، وهو يدعو الله في مكانه ، ويقول : إلهي ، اجعلها رحمة ، إلهي ! لا تجعلها عذابا ، إلهي ! كم من عجيبة سألتك ، فأعطيتني ، إلهي ! اجعلنا لك شاكرين ، إلهي ! أعوذ بك أن تكون أنزلتها غضبا وزجرا ، إلهي ! اجعلها سلامة وعافية ، ولا تجعلها فتنة ومثلة ، فما زال يدعو بذلك حتى استقرت السفرة بين يدي
عيسى - عليه السلام - ،
والحواريون وأصحابه حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط ،
nindex.php?page=treesubj&link=33951وخر عيسى - صلى الله على نبينا وعليه وسلم تسليما كثيرا - ساجدا شكرا له بما رزقهم من حيث لم يحتسبوا ، وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب ، وعبرة ، وأقبلت اليهود - لعنهم الله تعالى - ينظرون ، فرأوا أمرا عظيما عجيبا أورثهم كمدا ، وغما ، ثم انصرفوا بغيظ شديد ، وأقبل
عيسى - عليه السلام -
والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة ، فإذا عليها منديل مغطى ، قال
عيسى - عليه السلام - : من أجرأنا على كشف المنديل عن هذه السفرة ، وأوثقنا بنفسه ، وأحسننا بلاء عند ربه ؟ فليكشف عن هذه الآية حتى نراها ، ونحمد ربنا ، ونذكر اسمه ، ونأكل من رزقه الذي رزقنا ؟ قال
الحواريون : يا روح الله ، وكلمته ! أنت أولانا بذلك ، وأحقنا بالكشف
[ ص: 1537 ] عنه ، فقام
عيسى - صلى الله على نبينا وعليه وسلم تسليما كثيرا - فاستأنف وضوءا جديدا ، ثم دخل مصلاه ، فصلى لذلك ركعات ، ثم بكى طويلا ، ودعا الله عز وجل أن يأذن له في الكشف عنها ، ويجعل له ولقومه فيها بركة ، ورزقا ، ثم انصرف وجلس إلى السفرة ، وتناول المنديل ، وقال : " بسم الله خير الرازقين " ، وكشف عن السفرة ، فإذا هو عليها سمكة ضخمة مشوية ليس عليها بواسير ، وليس في جوفها شوك ، يسيل السمن منها سيلا ، قد نضد حولها فضول من كل صنف غير الكراث ، وعند رأسها خل ، وعند ذنبها ملح ، وحول البقول خمسة أرغفة ، على واحد منها زيتون ، وعلى الآخر تمرات ، وعلى الآخر خمس رمانات ، فقال
شمعون رأس
الحواريين لعيسى - عليه السلام - : يا روح الله ، أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة ؟ فقال : أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات ، وتنتهوا عن المسائل ؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب هذه الآية ، فقال
شمعون : لا ، وإله إسرائيل ! ما أردت بهذا سوءا يا ابن الصديقة ، فقال
عيسى - عليه السلام - : ليس شيء مما ترون عليها من طعام الجنة ، ولا من طعام الدنيا ، إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة ، فقال له : كن فكان أسرع من طرفة عين ، فكلوا ما سألتم بسم الله ، واحمدوا عليه ربكم يمدكم منه ، ويزدكم ، فإنه بديع قادر شاكر ، قالوا : يا روح الله وكلمته ، إنا نحب أن ترينا آية في هذه الآية ، فقال
عيسى - عليه السلام - : سبحان الله ! ما اكتفيتم بما رأيتم من هذه الآية حتى تسألوا إليها آية أخرى ، ثم أقبل
عيسى - عليه السلام - على السمكة ، فقال : يا سمكة عودي بإذن الله حية كما كنت ، فأحياها الله بقدرته ، فاضطربت
[ ص: 1538 ] ، وعادت بإذن الله تعالى حية طرية تلمظ كما تلمظ الأسد ، تدور عيناها لها بصيص ، وعادت عليها بواسيرها ، ففزع القوم منها ، وانحاشوا ، فلما رأى
عيسى - عليه السلام - ذلك منهم ، قال : ما لكم تسألون الآية ، فإذا أراكموها ربكم كرهتموها ؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون ، يا سمكة عودي بإذن الله كما كنت ، فعادت بإذن الله تعالى مشوية كما كانت في خلقها الأول ، فقالوا
لعيسى - عليه السلام - : كن أنت يا روح الله وكلمته الذي تبدأ بالأكل ، ثم نحن بعد ، فقال
عيسى - عليه السلام - : معاذ الله من ذلك ، يبدأ بالأكل من طلبها ، فلما رأى
الحواريون وأصحابهم خافوا أن يكون نزولها سخطة ، وفي أكلها مثلة فتحاموها ، فلما رأى ذلك
عيسى - عليه السلام - دعا لها الفقراء والزمنى ، وقال : كلوا من رزق ربكم ، ودعوة نبيكم ، واحمدوا الله الذي أنزلها ليكون مهنأها لكم ، وعقوبتها على غيركم ، وافتتحوا أكلكم باسم الله ، واختموه بحمد الله ، ففعلوا ، فأكل منها ألف وثلاث مائة إنسان بين رجل وامرأة يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ ، ونظر
عيسى - عليه السلام -
والحواريون ، فإذا ما عليها كهيئتها إذ نزلت من السماء ، وهم ينظرون ، فاستغنى كل فقير أكل منها ، وبرئ كل زمن أكل منها ، فلم يزالوا
[ ص: 1539 ] أغنياء صحاحا حتى خرجوا من الدنيا ، وندم
الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سالت منها أشفارهم ، وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات ، قال : فكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبلت بنو إسرائيل إليها من كل مكان يزاحم بعضهم بعضا - الأغنياء والفقراء والنساء والصغار والكبار والأصحاء والمرضى - يركب بعضهم بعضا ، فلما رأى ذلك جعلها نوائب بينهم ، وكانت تنزل غبا ، وتنزل يوما ولا تنزل يوما - كناقة ثمود ترد ماءهم يوما ، وتغيب عنهم في رعيها يوما - ، فلبثوا في ذلك أربعين يوما تنزل غبا عند ارتفاع الضحى ، فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا قاموا ارتفعت عنهم بإذن الله تعالى إلى جو السماء ، وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم ، فأوحى الله عز وجل إلى نبيه
عيسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - أن اجعل رزقي في المائدة لليتامى والفقراء والزمنى دون الأغنياء من الناس ، فلما فعل ذلك ارتاب بها الأغنياء ، وغمصوا ذلك حتى شكوا فيها ، وشككوا فيها الناس ، وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر ، وأدرك الشيطان منهم حاجته ، وقذف وساوسه في قلوب المرتابين حتى قالوا
لعيسى - عليه السلام - : أخبرنا عن المائدة ، ونزولها من السماء ، فإنه قد ارتاب بها بشر منا كثير ، قال
عيسى - عليه السلام - : هلكتم وإله
المسيح ! طلبتم المائدة إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم ، فلما أن فعل كذبتم بها ، وشككتم فيها ، فأبشروا بالعذاب ، فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله تعالى ، فأوحى الله عز وجل إلى
عيسى [ ص: 1540 ] - صلى الله على نبينا وعليه وسلم تسليما - : إني آخذ المكذبين بشرطي ، فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ، فقال عيسى - عليه السلام - مشتكيا لربه : إلهي ! (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=118إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) فلما أمسى المرتابون بها ، وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين ، فلما كان في آخر الليل مسخهم الله تعالى خنازير ، وأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات ، وأمسى سائر بني إسرائيل يطيفون
بعيسى - عليه السلام - خوفا ورعبا مما لقي أصحابهم ، فلما خرج
عيسى - عليه السلام - أقبلت الخنازير تسعى إليه ، وتلوذ به ، فلما اجتمعت إليه خرت له سجودا ، ودموعها تسيل ، فجعل
عيسى - عليه السلام - يسمي رجالا منهم يدعوهم بأسمائهم يا فلان ، يا فلان ، فيومئ كل واحد منهم برأسه لا يستطيعون الكلام ، فقال : قد كنت أحذركم عقاب الله ، وأنذركم عذابه ، وكأني كنت أنظر إليكم ممسوخين مثلة من المثلات ، فأخبر عنهم نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم أمته ذلك حين استعجل كفار قريش بالعذاب ، وقال (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=6ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات ) وقال (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=78لعن الذين كفروا من بني إسرائيل ) إلى (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=78وكانوا يعتدون ) فقاموا بذلك ثلاثة أيام ، وأهلوهم يبكون حولهم ، وقد رق
[ ص: 1541 ] لهم الناس ، وخافوا ما نزل بهم ، فلما رأى ذلك
عيسى - عليه السلام - ، ودعا الله تعالى أن يميتهم ، فأماتهم اليوم الرابع ، فلم ير لهم جيفة في الأرض ، فالله أعلم أين كانت جيفهم ؟ غير أنها كانت عقوبة استأصلت أهلها حتى لم يبق لهم أثر في الأرض " .
44 - ذِكْرُ الْمَائِدَةِ وَصِفَتِهَا
999 - 1 حَدَّثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=15492الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي
الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ لَيْثٍ ، حَدَّثَنَا
جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ ، وَكَانَ مِنَ الْمُصَلِّيِنَ ، حَدَّثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=12427إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِرْدَاسٍ الْعَبْدَرِيُّ مَوْلَى بَنِي عَبْدِ الدَّارِ الصَّنْعَانِيُّ الْمُجَدَّرُ - يَسْكُنُ
صَنْعَاءَ - ، عَنْ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=17285وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=12081أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=23سَلْمَانَ الْخَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=32016_31988_31847سَأَلَ الْحَوَارِيُّونَ عِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا - الْمَائِدَةَ ، كَرِهَ ذَلِكَ جِدًّا ، وَقَالَ : " يَا قَوْمِ ، اتَّقُوا اللَّهَ ، وَاقْنَعُوا بِمَا رَزَقَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ ، وَلَا تَسْأَلُوا الْمَائِدَةَ مِنَ السَّمَاءِ ، فَإِنَّهَا إِنْ نَزَلَتْ عَلَيْكُمْ كَانَتْ آيَةً [ ص: 1535 ] مِنْ رَبِّكُمْ ، وَإِنَّمَا هَلَكَتْ
ثَمُودُ حِينَ سَأَلُوا نَبِيَّهُمْ آيَةً ، فَابْتُلُوا بِهَا حَتَّى كَانَ بَوَارُهُمْ - يَعْنِي هَلَاكَهُمْ - ، فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ ، فَلِذَلِكَ قَالُوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=113نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا ، وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ) فَلَمَّا رَأَى
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُمْ قَدْ أَبَوْا إِلَّا أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ بِهَا ، قَالَ : فَأَلْقَى عَنْهُ الصُّوفَ ، وَلَبِسَ الشَّعْرَ الْأَسْوَدَ جُبَّةً مِنْ شَعْرٍ ، وَعَبَاءَةً مِنْ شَعْرٍ ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَاغْتَسَلَ ، وَدَخَلَ الصَّلَاةَ ، وَصَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَامَ قَائِمًا فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ، وَصَفَّ قَدَمَيْهِ حَتَّى اسْتَوَيَا ، فَأَلْصَقَ الْكَعْبَ بِالْكَعْبِ ، وَحَاذَى الْأَصَابِعَ بِالْأَصَابِعِ ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى فَوْقَ صَدْرِهِ ، وَأَغْضَى بَصَرَهُ ، وَطَأْطَأَ رَأْسَهُ خُشُوعًا ، ثُمَّ أَرْسَلَ عَيْنَيْهِ بِالْبُكَاءِ ، فَمَا زَالَتْ دُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى خَدَّيْهِ ، وَتَقْطُرُ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ حَتَّى ابْتَلَّتِ الْأَرْضُ حِيَالَ وَجْهِهِ مِنْ خُشُوعِهِ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا ) أَيْ تَكُونُ لَنَا عِظَةً (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ ، )
[ ص: 1536 ] أَيْ وَعَلَامَةً مِنْكَ تَكُونُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114وَارْزُقْنَا ) عَلَيْهَا طَعَامًا نَأْكُلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=114وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ سُفْرَةً حَمْرَاءَ بَيْنَ غَمَامَتَيْنِ غَمَامَةٍ فَوْقَهَا ، وَغَمَامَةٍ تَحْتَهَا ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا فِي الْهَوَاءِ ، تَنْقَضُّ مِنْ ظُلَلِ السَّمَاءِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ،
وَعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَبْكِي خَوْفًا لِلشُّرُوطِ الَّتِي اتَّخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّهُ يُعَذِّبُ مَنْ يَكْفُرُ بِهَا مِنْهُمْ بَعْدَ نُزُولِهَا عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ، وَهُوَ يَدْعُو اللَّهَ فِي مَكَانِهِ ، وَيَقُولُ : إِلَهِيَ ، اجْعَلْهَا رَحْمَةً ، إِلَهِي ! لَا تَجْعَلْهَا عَذَابًا ، إِلَهِي ! كَمْ مِنْ عَجِيبَةٍ سَأَلْتُكَ ، فَأَعْطَيْتَنِي ، إِلَهِي ! اجْعَلْنَا لَكَ شَاكِرِينَ ، إِلَهِي ! أَعُوذُ بِكَ أَنْ تَكُونَ أَنْزَلْتَهَا غَضَبًا وَزَجْرًا ، إِلَهِي ! اجْعَلْهَا سَلَامَةً وَعَافِيَةً ، وَلَا تَجْعَلْهَا فِتْنَةً وَمَثُلَةً ، فَمَا زَالَ يَدْعُو بِذَلِكَ حَتَّى اسْتَقَرَّتِ السُّفْرَةُ بَيْنَ يَدَيْ
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ،
وَالْحَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلَهُ يَجِدُونَ رَائِحَةً طَيِّبَةً لَمْ يَجِدُوا فِيمَا مَضَى رَائِحَةً مِثْلَهَا قَطُّ ،
nindex.php?page=treesubj&link=33951وَخَرَّ عِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا - سَاجِدًا شُكْرًا لَهُ بِمَا رَزَقَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ، وَأَرَاهُمْ فِيهِ آيَةً عَظِيمَةً ذَاتَ عَجَبٍ ، وَعِبْرَةٍ ، وَأَقْبَلَتِ الْيَهُودُ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - يَنْظُرُونَ ، فَرَأَوْا أَمْرًا عَظِيمًا عَجِيبًا أَوْرَثَهُمْ كَمَدًا ، وَغَمًّا ، ثُمَّ انْصَرَفُوا بِغَيْظٍ شَدِيدٍ ، وَأَقْبَلَ
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
وَالْحَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى جَلَسُوا حَوْلَ السُّفْرَةِ ، فَإِذَا عَلَيْهَا مِنْدِيلٌ مُغَطًّى ، قَالَ
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : مَنْ أَجْرَأُنَا عَلَى كَشْفِ الْمِنْدِيلِ عَنْ هَذِهِ السُّفْرَةِ ، وَأَوْثَقُنَا بِنَفْسِهِ ، وَأَحْسَنُنَا بَلَاءً عِنْدَ رَبِّهِ ؟ فَلْيَكْشِفْ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى نَرَاهَا ، وَنَحْمَدَ رَبَّنَا ، وَنَذْكُرَ اسْمَهُ ، وَنَأْكُلَ مِنْ رِزْقِهِ الَّذِي رَزَقَنَا ؟ قَالَ
الْحَوَارِيُّونَ : يَا رُوحَ اللَّهِ ، وَكَلِمَتَهُ ! أَنْتَ أَوْلَانَا بِذَلِكَ ، وَأَحَقُّنَا بِالْكَشْفِ
[ ص: 1537 ] عَنْهُ ، فَقَامَ
عِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا - فَاسْتَأْنَفَ وُضُوءًا جَدِيدًا ، ثُمَّ دَخَلَ مُصَلَّاهُ ، فَصَلَّى لِذَلِكَ رَكَعَاتٍ ، ثُمَّ بَكَى طَوِيلًا ، وَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْكَشْفِ عَنْهَا ، وَيَجْعَلَ لَهُ وَلِقَوْمِهِ فِيهَا بَرَكَةً ، وَرِزْقًا ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَجَلَسَ إِلَى السُّفْرَةِ ، وَتَنَاوَلَ الْمِنْدِيلَ ، وَقَالَ : " بِسْمِ اللَّهِ خَيْرِ الرَّازِقِينَ " ، وَكَشَفَ عَنِ السُّفْرَةِ ، فَإِذَا هُوَ عَلَيْهَا سَمَكَةٌ ضَخْمَةٌ مَشْوِيَّةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا بَوَاسِيرُ ، وَلَيْسَ فِي جَوْفِهَا شَوْكٌ ، يَسِيلُ السَّمْنُ مِنْهَا سَيْلًا ، قَدْ نُضِّدَ حَوْلَهَا فُضُولٌ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ غَيْرِ الْكُرَّاثِ ، وَعِنْدَ رَأْسِهَا خَلٌّ ، وَعِنْدَ ذَنَبِهَا مِلْحٌ ، وَحَوْلَ الْبُقُولِ خَمْسَةُ أَرْغِفَةٍ ، عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا زَيْتُونٌ ، وَعَلَى الْآخَرِ تَمَرَاتٌ ، وَعَلَى الْآخَرِ خَمْسُ رُمَّانَاتٍ ، فَقَالَ
شَمْعُونُ رَأْسُ
الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : يَا رُوحَ اللَّهِ ، أَمِنْ طَعَامِ الدُّنْيَا هَذَا أَمْ مِنْ طَعَامِ الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ : أَمَا آنَ لَكُمْ أَنْ تَعْتَبِرُوا بِمَا تَرَوْنَ مِنَ الْآيَاتِ ، وَتَنْتَهُوا عَنِ الْمَسَائِلِ ؟ مَا أَخْوَفَنِي عَلَيْكُمْ أَنْ تُعَاقَبُوا فِي سَبَبِ هَذِهِ الْآيَةِ ، فَقَالَ
شَمْعُونُ : لَا ، وَإِلَهِ إِسْرَائِيلَ ! مَا أَرَدْتُ بِهَذَا سُوءًا يَا ابْنَ الصِّدِّيقَةِ ، فَقَالَ
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : لَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا تَرَوْنَ عَلَيْهَا مِنْ طَعَامِ الْجَنَّةِ ، وَلَا مِنْ طَعَامِ الدُّنْيَا ، إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ ابْتَدَعَهُ اللَّهُ فِي الْهَوَاءِ بِالْقُدْرَةِ الْغَالِبَةِ الْقَاهِرَةِ ، فَقَالَ لَهُ : كُنْ فَكَانَ أَسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ ، فَكُلُوا مَا سَأَلْتُمْ بِسْمِ اللَّهِ ، وَاحْمَدُوا عَلَيْهِ رَبَّكُمْ يُمِدَّكُمْ مِنْهُ ، وَيَزِدْكُمْ ، فَإِنَّهُ بَدِيعٌ قَادِرٌ شَاكِرٌ ، قَالُوا : يَا رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ ، إِنَّا نُحِبُّ أَنْ تُرِيَنَا آيَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، فَقَالَ
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : سُبْحَانَ اللَّهِ ! مَا اكْتَفَيْتُمْ بِمَا رَأَيْتُمْ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى تَسْأَلُوا إِلَيْهَا آيَةً أُخْرَى ، ثُمَّ أَقْبَلَ
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى السَّمَكَةِ ، فَقَالَ : يَا سَمَكَةُ عُودِي بِإِذْنِ اللَّهِ حَيَّةً كَمَا كُنْتِ ، فَأَحْيَاهَا اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ ، فَاضْطَرَبَتْ
[ ص: 1538 ] ، وَعَادَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى حَيَّةً طَرِيَّةً تَلَمَّظُ كَمَا تَلَمَّظُ الْأُسْدُ ، تَدُورُ عَيْنَاهَا لَهَا بَصِيصٌ ، وَعَادَتْ عَلَيْهَا بَوَاسِيرُهَا ، فَفَزِعَ الْقَوْمُ مِنْهَا ، وَانْحَاشُوا ، فَلَمَّا رَأَى
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَلِكَ مِنْهُمْ ، قَالَ : مَا لَكُمْ تَسْأَلُونَ الْآيَةَ ، فَإِذَا أَرَاكُمُوهَا رَبُّكُمْ كَرِهْتُمُوهَا ؟ مَا أَخْوَفَنِي عَلَيْكُمْ أَنْ تُعَاقَبُوا بِمَا تَصْنَعُونَ ، يَا سَمَكَةُ عُودِي بِإِذْنِ اللَّهِ كَمَا كُنْتِ ، فَعَادَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى مَشْوِيَّةً كَمَا كَانَتْ فِي خَلْقِهَا الْأَوَّلِ ، فَقَالُوا
لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : كُنْ أَنْتَ يَا رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ الَّذِي تَبْدَأُ بِالْأَكْلِ ، ثُمَّ نَحْنُ بَعْدُ ، فَقَالَ
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ ، يَبْدَأُ بِالْأَكْلِ مَنْ طَلَبَهَا ، فَلَمَّا رَأَى
الْحَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابُهُمْ خَافُوا أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا سَخْطَةً ، وَفِي أَكْلِهَا مَثُلَةً فَتَحَامَوْهَا ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - دَعَا لَهَا الْفُقَرَاءَ وَالزَّمْنَى ، وَقَالَ : كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ ، وَدَعْوَةِ نَبِيِّكُمْ ، وَاحْمَدُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَهَا لِيَكُونَ مَهْنَأَهَا لَكُمْ ، وَعُقُوبَتُهَا عَلَى غَيْرِكُمْ ، وَافْتَتِحُوا أَكْلَكُمْ بِاسْمِ اللَّهِ ، وَاخِتِمُوهُ بِحَمْدِ اللَّهِ ، فَفَعَلُوا ، فَأَكَلَ مِنْهَا أَلْفٌ وَثَلَاثُ مِائَةِ إِنْسَانٍ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ يَصْدِرُونَ عَنْهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَبْعَانُ يَتَجَشَّأُ ، وَنَظَرَ
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
وَالْحَوَارِيُّونَ ، فَإِذَا مَا عَلَيْهَا كَهَيْئَتِهَا إِذْ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ ، فَاسْتَغْنَى كُلُّ فَقِيرٍ أَكَلَ مِنْهَا ، وَبَرِئَ كُلُّ زَمِنٍ أَكَلَ مِنْهَا ، فَلَمْ يَزَالُوا
[ ص: 1539 ] أَغْنِيَاءَ صِحَاحًا حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا ، وَنَدِمَ
الْحَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابُهُمُ الَّذِينَ أَبَوْا أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا نَدَامَةً سَالَتْ مِنْهَا أَشْفَارُهُمْ ، وَبَقِيَتْ حَسْرَتُهَا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْمَمَاتِ ، قَالَ : فَكَانَتِ الْمَائِدَةُ إِذَا نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَقْبَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَيْهَا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ يُزَاحِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا - الْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّغَارُ وَالْكِبَارُ وَالْأَصِحَّاءُ وَالْمَرْضَى - يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ جَعَلَهَا نَوَائِبَ بَيْنَهُمْ ، وَكَانَتْ تَنْزِلُ غِبًّا ، وَتَنْزِلُ يَوْمًا وَلَا تَنْزِلُ يَوْمًا - كَنَاقَةِ ثَمُودَ تَرِدُ مَاءَهُمْ يَوْمًا ، وَتَغِيبُ عَنْهُمْ فِي رَعْيِهَا يَوْمًا - ، فَلَبِثُوا فِي ذَلِكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَنْزِلُ غِبًّا عِنْدَ ارْتِفَاعِ الضُّحَى ، فَلَا تَزَالُ مَوْضُوعَةً يُؤْكَلُ مِنْهَا حَتَّى إِذَا قَامُوا ارْتَفَعَتْ عَنْهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى جَوِّ السَّمَاءِ ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى ظِلِّهَا فِي الْأَرْضِ حَتَّى تَوَارَى عَنْهُمْ ، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى نَبِيِّهِ
عِيسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنِ اجْعَلْ رِزْقِي فِي الْمَائِدَةِ لِلْيَتَامَى وَالْفُقَرَاءِ وَالزَّمْنَى دُونَ الْأَغْنِيَاءِ مِنَ النَّاسِ ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ ارْتَابَ بِهَا الْأَغْنِيَاءُ ، وَغَمَصُوا ذَلِكَ حَتَّى شَكُّوا فِيهَا ، وَشَكَّكُوا فِيهَا النَّاسَ ، وَأَذَاعُوا فِي أَمْرِهَا الْقَبِيحَ وَالْمُنْكَرَ ، وَأَدْرَكَ الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ حَاجَتَهُ ، وَقَذَفَ وَسَاوِسَهُ فِي قُلُوبِ الْمُرْتَابِينَ حَتَّى قَالُوا
لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : أَخْبَرَنَا عَنِ الْمَائِدَةِ ، وَنُزُولِهَا مِنَ السَّمَاءِ ، فَإِنَّهُ قَدِ ارْتَابَ بِهَا بَشَرٌ مِنَّا كَثِيرٌ ، قَالَ
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : هَلَكْتُمْ وَإِلَهِ
الْمَسِيحِ ! طَلَبْتُمُ الْمَائِدَةَ إِلَى نَبِيِّكُمْ أَنْ يَطْلُبَهَا لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ ، فَلَمَّا أَنْ فَعَلَ كَذَّبْتُمْ بِهَا ، وَشَكَّكْتُمْ فِيهَا ، فَأَبْشِرُوا بِالْعَذَابِ ، فَإِنَّهُ نَازِلٌ بِكُمْ إِلَّا أَنْ يَرْحَمَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى
عِيسَى [ ص: 1540 ] - صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا - : إِنِّي آخِذُ الْمُكَذِّبِينَ بِشَرْطِي ، فَإِنِّي مُعَذِّبٌ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بِالْمَائِدَةِ بَعْدَ نُزُولِهَا عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ، فَقَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُشْتَكِيًا لِرَبِّهِ : إِلَهِي ! (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=118إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فَلَمَّا أَمْسَى الْمُرْتَابُونَ بِهَا ، وَأَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ مَعَ نِسَائِهِمْ آمِنِينَ ، فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ مَسَخَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى خَنَازِيرَ ، وَأَصْبَحُوا يَتَّبِعُونَ الْأَقْذَارَ فِي الْكُنَاسَاتِ ، وَأَمْسَى سَائِرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَطِيفُونَ
بِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَوْفًا وَرُعْبًا مِمَّا لَقِيَ أَصْحَابُهُمْ ، فَلَمَّا خَرَجَ
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَقْبَلَتِ الْخَنَازِيرُ تَسْعَى إِلَيْهِ ، وَتَلُوذُ بِهِ ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ خَرَّتْ لَهُ سُجُودًا ، وَدُمُوعُهَا تَسِيلُ ، فَجَعَلَ
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُسَمِّي رِجَالًا مِنْهُمْ يَدْعُوهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ يَا فُلَانُ ، يَا فُلَانُ ، فَيُومِئُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِرَأْسِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْكَلَامَ ، فَقَالَ : قَدْ كُنْتُ أُحَذِّرُكُمْ عِقَابَ اللَّهِ ، وَأُنْذِرُكُمْ عَذَابَهُ ، وَكَأَنِّي كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَيْكُمْ مَمْسُوخِينَ مَثُلَةً مِنَ الْمَثُلَاتِ ، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ نَبِيُّنَا
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ ذَلِكَ حِينَ اسْتَعْجَلَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بِالْعَذَابِ ، وَقَالَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=6وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ ) وَقَالَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=78لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) إِلَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=78وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ) فَقَامُوا بِذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَأَهْلُوهُمْ يَبْكُونَ حَوْلَهُمْ ، وَقَدْ رَقَّ
[ ص: 1541 ] لَهُمُ النَّاسُ ، وَخَافُوا مَا نَزَلَ بِهِمْ ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ
عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ، وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُمِيتَهُمْ ، فَأَمَاتَهُمُ الْيَوْمَ الرَّابِعَ ، فَلَمْ يُرَ لَهُمْ جِيفَةٌ فِي الْأَرْضِ ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيْنَ كَانَتْ جِيَفُهُمْ ؟ غَيْرَ أَنَّهَا كَانَتْ عُقُوبَةً اسْتَأْصَلَتْ أَهْلَهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُمْ أَثَرٌ فِي الْأَرْضِ " .