2 - ذكر نوع من
nindex.php?page=treesubj&link=19789_19791_19786_19785_19784_19324_19778التفكر في عظمة الله عز وجل ، ووحدانيته ، وحكمه ، وتدبيره ، وسلطانه
قال الله عز وجل (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=21وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) فإذا تفكر العبد في ذلك استنارت له آيات الربوبية ، وسطعت له أنوار اليقين ، واضمحلت عنه غمرات الشك ، وظلمة الريب ، وذلك إذا نظر إلى نفسه وجدها مكونة مكنونة مجموعة مؤلفة مجزأة منضدة مصورة متركبة بعضها في بعض ، فيعلم أنه لا يوجد مدبر إلا بمدبر ، ولا مكون إلا بمكون ، وتجد تدبير المدبر فيه شاهدا دالا عليه كما تنظر إلى حيطان البناء ، وتقديرها " ، وإلى السقف المسقف فوقه بجذوعه ، وعوارضه ، وتطيين ظهره ، ونصب بابه ، وإحكام غلقه ، ومفتاحه للحاجة إليه . فكل ذلك يدل على بانيه ، ويشهد له ، فكذلك هذا الجسم إذا نظرت إليه ، وتفكرت
[ ص: 272 ] [ ص: 273 ] فيه وجدت آثار التدبير فيه قائمة شاهدة للمدبر دالة عليه ، فقد أيقن الخلائق كلهم أنهم لم يكونوا من قبل شيئا ، ولا كان لهم في الأرض أثر ولا ذكر ، فصاروا ، وهم لا يشعرون أنفسا معروفة مصورة مجسومة ، قد اجتمعت فيها جوارح ، وأعضاء بمقدار حاجتهم إليها لم يزد لهم على ذلك ، ولم ينقص منها من قطرة ماء لحوما منضدة ، وعظاما متركبة بحبال العروق ، ومشدودة بجلد متين موفى لحمه ودمه ما قد ركبت فيه مائتان وثمانية وأربعون عظما ، وشدت بثلاث مائة وستين عرقا فيما بلغنا للاتصال ، والانفصال ، والقبض ،
[ ص: 274 ] والبسط ، والمد ، والضم ، ويجعل فيه تسعة أبواب لحاجته إليها ، فمنها أذناه المثقوبتان لحاجة السمع قد جعل ماؤهما مرا لئلا يلج فيها دابة ، فتخلص إلى الدماغ ، وذلك الماء سم قاتل ، وعيناه لحاجة الرؤية مصباحان من نور مركبان في لحم ودم ، وقد جعل ماؤهما مالحا لئلا يفسدهما حرارة النفس بالنفس ، ولا يذوبان لأنه شحم ، ومنخراه المثقوبتان لحاجة الشم ،
[ ص: 275 ] والنفس ، وإلقاء ما يجتمع في رأسه من قذر المخاط ، وفوه المشقوق لحاجة التنفس والكلام والأكل والشرب ، قد جعل ماؤه عذبا ليجد لذة المطاعم وطعم المذاقات ، مركبة فيه الأسنان لحاجة المضغ من أعلى وأسفل ، كحجري رحى يطحنان الطعام بينهما ، دونهما مجرى الطعام والشراب حتى يسوق إلى المعدة ، وهي كالقدر في الجوف قد وكلت بها نار تنضجه فيها ، وهي الكبد بدمها ، قد وكلت بذلك الطعام أربع من الرياح ريح تسوقه من الفم إلى المعدة ، وريح تمسكه في الجوف إلى أن يصل نفعه إلى البدن ، وريح تصرف صفوته في العروق كما يطرد الماء في الأنهار ، وريح تدفع ثقله وفضله ، وذلك حين يجد في جوفه تجريد الخلاء والبول ، وقبله ودبره لحاجته إلى طرح ذلك الفضل ، وكل واحد منهما عون على شيء من الأشياء التي بها تنال اللذات ، وتدرك الطلبات ، وتحيى النفس ،
[ ص: 276 ] ويطيب العمر ، ولو نقص منها لامرئ عضو أو جارحة لطفق منقوص الحظ من شهوته ، وعاجزا عن إدراك بغيته ، ولو زاد فيها لضرته الزيادة وتأذى بها وأظهرت فيه عجزا كما يظهره النقص منها ، وإن خص الله عبدا بنقصان أو زيادة في عضو أو جارحة فذلك دليل على ابتلائه واختباره وتعريف من خلقه سويا فضل إنعامه وإحسانه ، وقد علم المخلوق أنه مدبر ، وأن له خالقا هو مدبر لأنه وجد العين مدبرة للبصر ، ولولاها لكان لا يقدر على النظر ، ولا يرى الدنيا ، ولا عجائبها ، ولا يفرق بين الحسن والقبيح
[ ص: 277 ] فيها ، والأذن تستمع ، ولولاها لكان لا يقدر على سمع كلامه لا يسمع كلاما ، ولا حسا ، ولا همسا ، ولا يستفيد أدبا ، ولا علما ، ولا يدرك قضاء ولا حكما ، والأنف للشم ، ولولاه لكان لا يتلذذ باستنشاق طيب ، ولا بنسيم ريح ، ولا يميز بين دواء نافع ، وسم قاتل ، والفم مشرعا إلى ما استبطن منه به ينزل الطعام والشراب ، ويصعد النفس والكلام ، ولولاه ما ذاق طعم الحياة ، ولا تخلف ساعة عن منهل الأموات ، واللسان للنطق ، ولولاه لكان لا يقدر على دعاء ، ولا نداء ، ولا على نجوى ، ولا على طلب شيء ابتغى أو اشتهى ، ولا على شكوى أو وصف بلوى ، واليد للبطش ، ولولاها لكان لا يستطيع قبضا ، ولا بسطا ، ولا تناولا ، ولا دفعا ، ولا تلقما ، ولا حكا ، والرجل للمشي ، ولولاها كان لا يخطو ، ولا ينهض ، ولا عن مكان إلى مكان ينتقل ، والفرج معين الشهوة ، ونهج للنطفة ، ولولاه لكان لا يوجد له نسل ، ولا يرى له عقب ، وسبيل سائر الجوارح التي لم نصفها بسبيل ما قد أتى وصفنا عليه منها ، وفي التفكر في الأمعاء ، وما فيها من الهواء ، والدماغ ،
[ ص: 278 ] والعصب والشوى اللاتي منها ما هي بمجاري الأطعمة ، والأشربة ، والأغذية ، ومنها ما هي مقاطن الروح والنفس والعقل والحلم والجهل والعلم والحذق ، وغير ذلك ، وفي رحم المرأة الذي يقع فيه الماء الدافق ويخرج منه الخلق الكامل ، وفي المفايح التي يجري فيها الدم والنفس ، والتي ينزل عليها من الأنثى للولد ، والتي تنشق مما يدخل الجوف ما تحيى به النفس ، ويربو عليه الجسم ، والتي يخرج بها ما تقضمه المعدة مما لو بقي فيها
[ ص: 279 ] لقتل صاحبها الشدة ، وفي ورود الروح البدن من غير أن يرى من أين ورد ؟ أو كيف حدث ؟ وصدوره عنه بلا أن يعلم كيف صدر ؟ وأين ذهب ؟ ثم إن الخلق جميعا على سبيلين ذكور وإناث ، والأنام طرا على نوعين : رجال ونساء ، وإن جوارح كل أحد على مثال غيره ، وصورة كل واحد تختلف عن صورة غيره ، فأي دليل لمدعي حق في دعواه أوضح مما وصفت ؟ وأي حجة له أوكد مما أحضرت ؟ ألا يعلم المعطل الشقي الجاهل الغوي حين لم يكن لنفسه في خلقه صنع ، ولا عرف لها في الأرض صانعا أن مثل هذه الأشياء المتفقة المنتظمة الملتأمة المتشاكلة المجتمعة في خلق واحد ، وكل أحد سبيله سبيل ذلك الواحد ، ومثل هذه
[ ص: 280 ] العجائب التي يعجز علم كونها فضلا عن إحداث مثلها لا تتكون من ذاتها ، ولا يستطيعه إلا حكيم قدير على إنشائها ، ثم الدلائل الواضحة ، والعلامات البينة في تغير الأمور وتصرف الدهور التي لا يستطيع دفعها ، ولا إحداث مثلها الملوك بسلطانهم ، ولا المثرون بأموالهم ، ولا أولو القوة بقوتهم ، ولا أهل الرأي بتدبيرهم ، وفي العجائب التي يحار فيها
[ ص: 281 ] البصر ، ويعجز عن وصفها البشر مما قد صارت كلها مدبرة لمصالح الأنام وأرفاقهم وأغذيتهم وأرزاقهم بغير صنع فيها لهم ، ولا حول ولا قوة منهم ، فلو رجعت الأرواح إلى أجسام كل من مضى من الدنيا فاجتمعوا مع كل من بقي على تغيير شيء منها أو خلق شيء مثلها بإفراغ الوسع ، وفرط الاجتهاد ، وبذل الأموال ما استطاعوه ، ولا قدروا عليه ، فمنها سماء قائمة في الهواء بغير عمد ، ولا أطناب ترى تظلهم ، وتبدي من زينتها لهم نجوما طالعات زاهرات جاريات لها بروج مفهومة ، ومطالع معلومة ، وهي علامات للسفر يهتدون بها في البر والبحر ، والشمس تطلع أول كل نهار من مشرقها ، وتغيب آخره في مغربها لا يرى لها رجوع ، ولا يعرف لها مبيت تنير ، فيستضيء بضوئها الدنيا لهم ، تزهو وتحمي فتربو بحرها الزروع ، وتلحق وهي للفقير دثار في القر
[ ص: 282 ] وللغني عون في الحر ، وقمر يبدو على آي البرد الزيادة والنقصان فيعرفون به عدد الشهور والأعوام ، وصبح يفلق ، فهو لهم معاش يتصرفون فيه لأمورهم ، وليل يغسق فهو لهم سكن يريحون فيه أبدانهم بهجوعهم ، وأزمنة نفاعة للخيرات جلابة تنتقل في كل حول مرارا من حال إلى حال ، ثم تعود عند انقضاء الحول إلى أول حال ، فلهم في كل حال منها سبب يجري عليهم نفعا ويجلب إليهم رزقا ، ورياح لا يرى لها جسم ولا يعرف لها كن تلقح لهم الأشجار ، فتحمل لهم الثمار وتروح الأجسام ، وتطيب الأبدان ، وهي مطردة للآفات التي تحدث بين الأرض والسماوات ، سحاب يدر عليهم الغيث في أوان انتفاعهم به ، ويمسك عنهم وقت استغنائهم عنه ، فتمتد لهم منه الأنهار ، وتغمر به البلاد ، ويكثر
[ ص: 283 ] منه الحب والنبات ويحيى به النوامى والموات ، وأرض على الماء مبسوطة هي لهم مهاد ، ومعيشة تنبت لهم المطاعم والملابس وتخرج لهم المشارب والمغانم ، وتحملهم على ظهرها ما عاشوا ، وتواريهم إذا ما ماتوا ، وجبال هي أوتاد لأرضهم لتستقر ، ولا تميد بهم ، ولتخرج لهم الجواهر والأموال ، ولينحتوا منها البيوت ، ويرعوا فيها الأغنام ، ويقدحوا منها النار التي فيها دفؤهم ، وبها تصلح أغذيتهم ، وتطيب أطعمتهم ، وماء فيه حياة كل شيء ، ومنه أصل كل شيء يرويهم من العطش ، وينقيهم من الدنس ، ويطهرهم عن النجس ، وقد امتد منه بحور تجري الفلك فيه ، تحملهم إلى المكان البعيد ، ويأكلون منها اللحم الطري ، ويعثر لهم عن الحلي والطيب ، أو نبعت الأرض لهم منه ماء يسوقونه إلى المواضع التي يحتاجون إليه فيها لينبت لهم المآكل التي يعيشون بها ، وخزنت منه ما يبرد لهم في
[ ص: 284 ] القيظ ليستلذوا شربه ، ويفتر لهم في الشتاء لئلا يؤذيهم برده حين يستعملونه ، وأنعام لهم دفء ومنافع ومطاعم وملابس ، وفيها لهم جمال حين تريحون ، وحين تسرحون ، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ، وتتخذون من جلودها بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ، ويوم إقامتكم ومن أصوافها ، وأوبارها وأشعارها أثاثا ، ويشربون مما في بطونها من بين فرث ، ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ، وخيل وبغال وحمير ليركبوها ، ويتزينوا بها ، ونحل تتخذ من الجبال بيوتا ، ومن الشجر ، ومما يعرشون وتأكل من كل الثمرات ، ويخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه لهم شفاء ولذة ، ثم ما وجد من خلق سائر الأمم والحيوان ، وما هديت لما قدر لها من الأرزاق ، ثم غير ذلك مما في السماوات السبع ، وفي الجو بين السماء والأرض ، وفي البراري ، والبحار ، والفيافي والديار ،
[ ص: 285 ] والشعوب والجبال ، وفي تخوم الأرض وظلماتها وحوادث الدهر وخطراتها من العجائب التي لا يبلغها وصف واصف ، ولا يدركها علم عالم ، وكلها ينبئ لما يقع من العبر فيها أنها مخلوقة مكونة مصنوعة مدبرة بتدبير حكيم عليم سميع بصير أحد دائم على سبيل واحد ، غير معلم ولا مقوم ولا محدث ولا مدبر ، علم ما يكون قبل أن يكونه ، وعرف لكل شيء ما يصلحه ، وسهل عليه كل شيء شاءه ، وانبسطت يده في جميع ما أراده لم يعجزه شيء عن شيء ، ولا منعه شيء عن شيء ، فخلق الأشياء كلها كما شاء ، وقدرها ، وجعلها متضادة ، وقومها وسبب لها معاشها ومصالحها ، وحرسها بعين لا تنام وحفظها بلا معين ، ولا نصير ، ولا هاد ، ولا مشير ، ولا كفو ، ولا شريك ، ولا ضد ، ولا نظير ، ولا والد ، ولا نسيب ، ولا صاحبة ، ولا ولد ، ومن دلائل البعث أن الحبة الميتة قد تدفن في التراب ليس لها ورق
[ ص: 286 ] ولا غصن ولا شعب ولا ثمر ولا لون ولا ريح ولا طعم ولا حركة ، فيمكثها الله في التراب ، ثم يحييها فالق الحب والنوى ، فيخرجها من مدفنها متحركة بعد ما لم يكن لها حركة ، وتخرج من التراب مع شعب وورق ولون وريح وطعم ، ولم يكن لها شيء من ذلك حين دست في التراب ، فكذلك الإنسان حين يدس في التراب ، وليس له حركة ولا روح ولا سمع ولا بصر كالحبة الميتة ، ثم يخرج من الأرض مع روح وحركة وسمع وبصر قد جعل الله تبارك وتعالى ذلك تبيانا لعباده ، ودلالة على معاده ، قال الله تبارك وتعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=33وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا ) ، وقال تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=9ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات ) إلى قوله تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=11كذلك الخروج ) ، و (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=57كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون ) فسبحان الذي
[ ص: 287 ] أوضح دلالته للمتفكرين ، وأبدى شواهده للناظرين ، وبين آياته للعاقلين ، وقطع عذر المعاندين ، وأدحض حجج الجاحدين وأعمى أبصار الغافلين ، وتبارك الله أحسن الخالقين ، والحمد لله مالك يوم الدين ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله رب العالمين
[ ص: 288 ] [ ص: 289 ] [ ص: 290 ] [ ص: 291 ] [ ص: 292 ] [ ص: 293 ] [ ص: 294 ] [ ص: 295 ] [ ص: 296 ] [ ص: 297 ]
2 - ذِكْرُ نَوْعٍ مِنَ
nindex.php?page=treesubj&link=19789_19791_19786_19785_19784_19324_19778التَّفَكُّرِ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَوَحْدَانِيَّتِهِ ، وَحُكْمِهِ ، وَتَدْبِيرِهِ ، وَسُلْطَانِهِ
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=21وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) فَإِذَا تَفَكَّرَ الْعَبْدُ فِيِ ذَلِكَ اسْتَنَارَتْ لَهُ آيَاتُ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَسَطَعَتْ لَهُ أَنْوَارُ الْيَقِينِ ، وَاضْمَحَلَّتْ عَنْهُ غَمَرَاتُ الشَّكِّ ، وَظُلْمَةُ الرَّيْبِ ، وَذَلِكَ إِذَا نَظَرَ إِلَى نَفْسِهِ وَجَدَهَا مُكَوَّنَةً مَكْنُونَةً مَجْمُوعَةً مُؤَلَّفَةً مَجْزَأَةً مُنَضَّدَةً مُصَوَّرَةً مُتَرَكِّبَةً بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ ، فَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مُدَبَّرٌ إِلَّا بِمُدَبِّرٍ ، وَلَا مُكَوَّنٌ إِلَّا بِمُكَوِّنٍ ، وَتَجِدُ تَدْبِيرَ الْمُدِبِّرِ فِيهِ شَاهِدًا دَالًّا عَلَيْهِ كَمَا تَنْظُرُ إِلَى حِيطَانِ الْبِنَاءِ ، وَتَقْدِيرِهَا " ، وَإِلَى السَّقْفِ الْمُسَقَّفِ فَوْقَهُ بِجُذُوعِهِ ، وَعَوَارِضِهِ ، وَتَطْيِينِ ظَهْرِهِ ، وَنَصْبِ بَابِهِ ، وَإِحْكَامِ غَلْقِهِ ، وَمِفْتَاحِهِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ . فَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى بَانِيهِ ، وَيَشْهَدُ لَهُ ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْجِسْمُ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ ، وَتَفَكَّرْتَ
[ ص: 272 ] [ ص: 273 ] فِيهِ وَجَدْتَ آثَارَ التَّدْبِيرِ فِيهِ قَائِمَةً شَاهِدَةً لِلْمُدَبِّرِ دَالَّةً عَلَيْهِ ، فَقَدْ أَيْقَنَ الْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئًا ، وَلَا كَانَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أَثَرٌ وَلَا ذِكْرٌ ، فَصَارُوا ، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنْفُسًا مَعْرُوفَةً مُصَوَّرَةً مَجْسُومَةً ، قَدِ اجْتَمَعَتْ فِيهَا جَوَارِحُ ، وَأَعْضَاءٌ بِمِقْدَارِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا لَمْ يَزِدْ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهَا مِنْ قَطْرَةِ مَاءٍ لُحُومًا مُنَضَّدَةً ، وَعِظَامًا مُتَرَكِّبَةً بِحِبَالِ الْعُرُوقِ ، وَمَشْدُودَةً بِجِلْدٍ مَتِينٍ مُوَفًّى لَحْمُهُ وَدَمُهُ مَا قَدْ رُكِّبَتْ فِيهِ مِائَتَانِ وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ عَظْمًا ، وَشُدَّتْ بِثَلَاثِ مِائَةٍ وَسِتِّينَ عِرْقًا فِيمَا بَلَغَنَا لِلِاتِّصَالِ ، وَالِانْفِصَالِ ، وَالْقَبْضِ ،
[ ص: 274 ] وَالْبَسْطِ ، وَالْمَدِّ ، وَالضَّمِ ، وَيَجْعَلُ فِيهِ تِسْعَةَ أَبْوَابٍ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا ، فَمِنْهَا أُذُنَاهُ الْمَثْقُوبَتَانِ لِحَاجَةِ السَّمْعِ قَدْ جُعِلَ مَاؤُهُمَا مُرًّا لِئَلَّا يَلِجَ فِيهَا دَابَّةٌ ، فَتَخْلُصَ إِلَى الدِّمَاغِ ، وَذَلِكَ الْمَاءُ سُمٌّ قَاتِلٌ ، وَعَيْنَاهُ لِحَاجَةِ الرُّؤْيَةِ مِصْبَاحَانِ مِنْ نُورٍ مُرَكَّبَانِ فِي لَحْمٍ وَدَمٍ ، وَقَدْ جُعِلَ مَاؤُهُمَا مَالِحًا لِئَلَّا يُفْسِدَهُمَا حَرَارَةُ النَّفَسِ بِالنَّفَسِ ، وَلَا يَذُوبَانِ لِأَنَّهُ شَحْمٌ ، وَمَنْخِرَاهُ الْمَثْقُوبَتَانِ لِحَاجَةِ الشَّمِّ ،
[ ص: 275 ] وَالنَّفَسِ ، وَإِلْقَاءِ مَا يَجْتَمِعُ فِي رَأْسِهِ مِنْ قَذَرِ الْمُخَاطِ ، وَفُوهُ الْمَشْقُوقُ لِحَاجَةِ التَّنَفُّسِ وَالْكَلَامِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، قَدْ جُعِلَ مَاؤُهُ عَذْبًا لِيَجِدَ لَذَّةَ الْمَطَاعِمِ وَطَعْمَ الْمَذَاقَاتِ ، مُرَكَّبَةٌ فِيهِ الْأَسْنَانُ لِحَاجَةِ الْمَضْغِ مِنْ أَعْلَى وَأَسْفَلَ ، كَحَجَرَيْ رَحًى يَطْحَنَانِ الطَّعَامَ بَيْنَهُمَا ، دُونَهُمَا مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ حَتَّى يَسُوقَ إِلَى الْمَعِدَةِ ، وَهِيَ كَالْقِدْرِ فِي الْجَوْفِ قَدْ وُكِّلَتْ بِهَا نَارٌ تُنْضِجُهُ فِيهَا ، وَهِيَ الْكَبِدُ بِدَمِهَا ، قَدْ وُكِّلَتْ بِذَلِكَ الطَّعَامِ أَرْبَعٌ مِنَ الرِّيَاحِ رِيحُ تَسُوقُهُ مِنَ الْفَمِ إِلَى الْمَعِدَةِ ، وَرِيحٌ تُمْسِكُهُ فِي الْجَوْفِ إِلَى أَنْ يَصِلَ نَفْعُهُ إِلَى الْبَدَنِ ، وَرِيحٌ تَصْرِفُ صَفْوَتَهُ فِي الْعُرُوقِ كَمَا يُطْرَدُ الْمَاءُ فِي الْأَنْهَارِ ، وَرِيحٌ تَدْفَعُ ثِقَلَهُ وَفَضْلَهُ ، وَذَلِكَ حِينَ يَجِدُ فِي جَوْفِهِ تَجْرِيدَ الْخَلَاءِ وَالْبَوْلِ ، وَقُبُلُهُ وَدُبُرُهُ لِحَاجَتِهِ إِلَى طَرْحِ ذَلِكَ الْفَضْلِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَوْنٌ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي بِهَا تُنَالُ اللَّذَّاتُ ، وَتُدْرَكُ الطَّلَبَاتُ ، وَتَحْيَى اَلنَّفْسُ ،
[ ص: 276 ] وَيَطِيبُ الْعُمُرُ ، وَلَوْ نَقَصَ مِنْهَا لِامْرِئٍ عُضْوٌ أَوْ جَارِحَةٌ لَطَفِقَ مَنْقُوصَ الْحَظِّ مِنْ شَهْوَتِهِ ، وَعَاجِزًا عَنْ إِدْرَاكِ بُغْيَتِهِ ، وَلَوْ زَادَ فِيهَا لَضَرَّتْهُ الزِّيَادَةُ وَتَأَذَّى بِهَا وَأَظْهَرَتْ فِيهِ عَجْزًا كَمَا يُظْهِرُهُ النَّقْصُ مِنْهَا ، وَإِنْ خَصَّ اللَّهُ عَبْدًا بِنُقْصَانٍ أَوْ زِيَادَةٍ فِي عُضْوٍ أَوْ جَارِحَةٍ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى ابْتِلَائِهِ وَاخْتِبَارِهِ وَتَعْرِيفِ مَنْ خَلَقَهُ سَوِيًّا فَضْلَ إِنْعَامِهِ وَإِحْسَانِهِ ، وَقَدْ عَلِمَ الْمَخْلُوقُ أَنَّهُ مُدَبِّرٌ ، وَأَنَّ لَهُ خَالِقًا هُوَ مُدَبِّرٌ لِأَنَّهُ وَجَدَ الْعَيْنَ مُدَبِّرَةً لِلْبَصَرِ ، وَلَوْلَاهَا لَكَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى النَّظَرِ ، وَلَا يَرَى الدُّنْيَا ، وَلَا عَجَائِبَهَا ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ
[ ص: 277 ] فِيهَا ، وَالْأُذُنَ تَسْتَمِعُ ، وَلَوْلَاهَا لَكَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى سَمْعِ كَلَامِهِ لَا يَسْمَعُ كَلَامًا ، وَلَا حِسًّا ، وَلَا هَمْسًا ، وَلَا يَسْتَفِيدُ أَدَبًا ، وَلَا عِلْمًا ، وَلَا يُدْرِكُ قَضَاءً وَلَا حُكْمًا ، وَالْأَنْفَ لِلشَّمِّ ، وَلَوْلَاهُ لَكَانَ لَا يَتَلَذَّذُ بِاسْتِنْشَاقِ طِيبٍ ، وَلَا بِنَسِيمِ رِيحٍ ، وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ دَوَاءٍ نَافِعٍ ، وَسُمٍّ قَاتِلٍ ، وَالْفَمَ مُشْرَعًا إِلَى مَا اسْتَبْطَنَ مِنْهُ بِهِ يَنْزِلُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ ، وَيَصْعَدُ النَّفَسُ وَالْكَلَامُ ، وَلَوْلَاهُ مَا ذَاقَ طَعْمَ الْحَيَاةِ ، وَلَا تَخَلَّفَ سَاعَةً عَنْ مَنْهَلِ الْأَمْوَاتِ ، وَاللِّسَانَ لِلنُّطْقِ ، وَلَوْلَاهُ لَكَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى دُعَاءٍ ، وَلَا نِدَاءٍ ، وَلَا عَلَى نَجْوًى ، وَلَا عَلَى طَلَبِ شَيْءٍ ابْتَغَى أَوِ اشْتَهَى ، وَلَا عَلَى شَكْوَى أَوْ وَصْفِ بَلْوَى ، وَالْيَدَ لِلْبَطْشِ ، وَلَوْلَاهَا لَكَانَ لَا يَسْتَطِيعُ قَبْضًا ، وَلَا بَسْطًا ، وَلَا تَنَاوُلًا ، وَلَا دَفْعًا ، وَلَا تَلَقُّمًا ، وَلَا حَكًّا ، وَالرِّجْلَ لِلْمَشْيِ ، وَلَوْلَاهَا كَانَ لَا يَخْطُو ، وَلَا يَنْهَضُ ، وَلَا عَنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ يَنْتَقِلُ ، وَالْفَرْجُ مَعِينُ الشَّهْوَةِ ، وَنَهْجٌ لِلنُّطْفَةِ ، وَلَوْلَاهُ لَكَانَ لَا يُوجَدُ لَهُ نَسْلٌ ، وَلَا يُرَى لَهُ عَقِبٌ ، وَسَبِيلُ سَائِرِ الْجَوَارِحِ الَّتِي لَمْ نَصِفْهَا بِسَبِيلِ مَا قَدْ أَتَى وَصْفُنَا عَلَيْهِ مِنْهَا ، وَفِي التَّفَكُّرِ فِي الْأَمْعَاءِ ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْهَوَاءِ ، وَالدِّمَاغِ ،
[ ص: 278 ] وَالْعَصَبِ وَالشَّوَى اللَّاتِي مِنْهَا مَا هِيَ بِمَجَارِي الْأَطْعِمَةِ ، وَالْأَشْرِبَةِ ، وَالْأَغْذِيَةِ ، وَمِنْهَا مَا هِيَ مَقَاطِنُ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْعَقْلِ وَالْحِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالْعِلْمِ وَالْحَذْقِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَفِي رَحِمِ الْمَرْأَةِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْمَاءُ الدَّافِقُ وَيَخْرُجُ مِنْهُ الْخَلْقُ الْكَامِلُ ، وَفِي الْمَفَايِحِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الدَّمُ وَالنَّفَسُ ، وَالَّتِي يَنْزِلُ عَلَيْهَا مِنَ الْأُنْثَى لِلْوَلَدِ ، وَالَّتِي تَنْشَقُّ مِمَّا يَدْخُلُ الْجَوْفَ مَا تَحْيَى بِهِ النَّفْسُ ، وَيَرْبُو عَلَيْهِ الْجِسْمُ ، وَالَّتِي يَخْرُجُ بِهَا مَا تَقْضُمُهُ الْمَعِدَةُ مِمَّا لَوْ بَقِيَ فِيهَا
[ ص: 279 ] لَقَتَلَ صَاحِبَهَا الشِّدَّةُ ، وَفِي وُرُودِ الرُّوحِ الْبَدَنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَى مِنْ أَيْنَ وَرَدَ ؟ أَوْ كَيْفَ حَدَثَ ؟ وَصُدُورِهِ عَنْهُ بِلَا أَنْ يُعْلَمَ كَيْفَ صَدَرَ ؟ وَأَيْنَ ذَهَبَ ؟ ثُمَّ إِنَّ الْخَلْقَ جَمِيعًا عَلَى سَبِيلَيْنِ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ ، وَالْأَنَامُ طُرًّا عَلَى نَوْعَيْنِ : رِجَالٍ وَنِسَاءٍ ، وَإِنَّ جَوَارِحَ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى مِثَالِ غَيْرِهِ ، وَصُورَةَ كُلِّ وَاحِدٍ تَخْتَلِفُ عَنْ صُورَةِ غَيْرِهِ ، فَأَيُّ دَلِيلٍ لِمُدَّعِي حَقٍّ فِي دَعْوَاهُ أَوْضَحُ مِمَّا وَصَفْتُ ؟ وَأَيُّ حُجَّةٍ لَهُ أَوْكَدُ مِمَّا أَحَضَرْتُ ؟ أَلَا يَعْلَمُ الْمُعَطِّلُ الشَّقِيُّ الْجَاهِلُ الَغَوِيُّ حِينَ لَمْ يَكُنْ لِنَفْسِهِ فِي خَلْقِهِ صُنْعٌ ، وَلَا عَرَفَ لَهَا فِي الْأَرْضِ صَانِعًا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَّفِقَةِ الْمُنْتَظِمَةِ الْمُلْتَأَمَةِ الْمُتَشَاكِلَةِ الْمُجْتَمِعَةِ فِي خَلْقٍ وَاحِدٍ ، وَكُلُّ أَحَدٍ سَبِيلُهُ سَبِيلُ ذَلِكَ الْوَاحِدِ ، وَمَثَلُ هَذِهِ
[ ص: 280 ] الْعَجَائِبِ الَّتِي يُعْجِزُ عِلْمُ كَوْنِهَا فَضْلًا عَنْ إِحْدَاثِ مِثْلِهَا لَا تَتَكَوَّنُ مِنْ ذَاتِهَا ، وَلَا يَسْتَطِيعُهُ إِلَّا حَكِيمٌ قَدِيرٌ عَلَى إِنْشَائِهَا ، ثُمَّ الدَّلَائِلُ الْوَاضِحَةُ ، وَالْعَلَامَاتُ الْبَيِّنَةُ فِي تَغَيُّرِ الْأُمُورِ وَتَصَرُّفِ الدُّهُورِ الَّتِي لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَهَا ، وَلَا إِحْدَاثَ مِثْلِهَا الْمُلُوكُ بِسُلْطَانِهِمْ ، وَلَا الْمُثْرُونَ بِأَمْوَالِهِمْ ، وَلَا أُولُو الْقُوَّةِ بِقُوَّتِهِمْ ، وَلَا أَهْلُ الرَّأْيِ بِتَدْبِيرِهِمْ ، وَفِي الْعَجَائِبِ الَّتِي يَحَارُ فِيهَا
[ ص: 281 ] الْبَصَرُ ، وَيَعْجَزُ عَنْ وَصْفِهَا الْبَشَرُ مِمَّا قَدْ صَارَتْ كُلُّهَا مُدَبِّرَةً لِمَصَالِحِ الْأَنَامِ وَأَرْفَاقِهِمْ وَأَغْذِيَتِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ بِغَيْرِ صُنْعٍ فِيهَا لَهُمْ ، وَلَا حَوْلٍ وَلَا قُوَّةٍ مِنْهُمْ ، فَلَوْ رَجَعَتِ الْأَرْوَاحُ إِلَى أَجْسَامِ كُلِّ مَنْ مَضَى مِنَ الدُّنْيَا فَاجْتَمَعُوا مَعَ كُلِّ مَنْ بَقِيَ عَلَى تَغَيِيرِ شَيْءٍ مِنْهَا أَوْ خَلْقِ شَيْءٍ مِثْلَهَا بِإِفْرَاغِ الْوُسْعِ ، وَفَرْطِ الِاجْتِهَادِ ، وَبَذْلِ الْأَمْوَالِ مَا اسْتَطَاعُوهُ ، وَلَا قَدَرُوا عَلَيْهِ ، فَمِنْهَا سَمَاءٌ قَائِمَةٌ فِي الْهَوَاءِ بِغَيْرِ عَمَدٍ ، وَلَا أَطْنَابٍ تُرَى تُظِلُّهُمْ ، وَتُبْدِي مِنْ زِينَتِهَا لَهُمْ نُجُومًا طَالِعَاتٍ زَاهِرَاتٍ جَارِيَاتٍ لَهَا بُرُوجٌ مَفْهُومَةٌ ، وَمَطَالِعُ مَعْلُومَةٌ ، وَهِيَ عَلَامَاتٌ لِلسَّفَرِ يَهْتَدُونَ بِهَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، وَالشَّمْسُ تَطْلُعُ أَوَّلَ كُلِّ نَهَارٍ مِنْ مَشْرِقِهَا ، وَتَغِيبُ آخِرَهُ فِي مَغْرِبِهَا لَا يُرَى لَهَا رُجُوعٌ ، وَلَا يُعْرَفُ لَهَا مَبِيتٌ تُنِيرُ ، فَيَسْتَضِيءُ بِضَوْئِهَا الدُّنْيَا لَهُمْ ، تَزْهُو وَتَحْمِي فَتَرْبُو بِحَرِّهَا الزُّرُوعُ ، وَتَلْحَقُ وَهِيَ لِلْفَقِيرِ دِثَارٌ فِي الْقُرِّ
[ ص: 282 ] وِلِلْغَنِيِّ عَوْنٌ فِي الْحَرِّ ، وَقَمَرٌ يَبْدُو عَلَى آيِ الْبُرُدِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَيَعْرِفُونَ بِهِ عَدَدَ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ ، وَصُبْحٌ يُفْلَقُ ، فَهُوَ لَهُمْ مَعَاشٌ يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ لِأُمُورِهِمْ ، وَلَيْلٌ يَغْسَقُ فَهُوَ لَهُمْ سَكَنٌ يُرِيحُونَ فِيهِ أَبْدَانَهُمْ بِهُجُوعِهِمْ ، وَأَزْمِنَةٌ نَفَّاعَةٌ لِلْخَيْرَاتِ جَلَّابَةٌ تَنْتَقِلُ فِي كُلِّ حَوْلٍ مِرَارًا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ، ثُمَّ تَعُودُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ إِلَى أَوَّلِ حَالٍ ، فَلَهُمْ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْهَا سَبَبٌ يُجْرِي عَلَيْهِمْ نَفْعًا وَيَجْلُبُ إِلَيْهِمْ رِزْقًا ، وَرِيَاحٌ لَا يُرَى لَهَا جِسْمٌ وَلَا يُعْرَفُ لَهَا كِنٌّ تُلَقِّحُ لَهُمُ الْأَشْجَارَ ، فَتَحْمِلُ لَهُمُ الثِّمَارَ وَتُرَوِّحُ الْأَجْسَامَ ، وَتُطَيِّبُ الْأَبْدَانَ ، وَهِيَ مَطْرَدَةٌ لِلْآفَاتِ الَّتِي تَحْدُثُ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ ، سَحَابٌ يُدِرُّ عَلَيْهِمُ الْغَيْثَ فِي أَوَانِ انِتِفَاعِهِمْ بِهِ ، وَيُمْسِكُ عَنْهُمْ وَقْتَ اسِتْغِنَائِهِمْ عَنْهُ ، فَتَمْتَدُّ لَهُمْ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ، وَتُغْمَرُ بِهِ الْبِلَادُ ، وَيَكْثُرُ
[ ص: 283 ] مِنْهُ الْحَبُّ وَالنَّبَاتُ وَيُحْيَى بِهِ النَّوَامَى وَالْمَوَاتُ ، وَأَرْضٌ عَلَى الْمَاءِ مَبْسُوطَةٌ هِيَ لَهُمْ مِهَادٌ ، وَمَعِيشَةٌ تُنْبِتُ لَهُمُ الْمَطَاعِمَ وَالْمَلَابِسَ وَتُخْرِجُ لَهُمُ الْمَشَارِبَ وَالْمَغَانِمَ ، وَتَحْمِلُهُمْ عَلَى ظَهْرِهَا مَا عَاشُوا ، وَتُوَارِيهِمْ إِذَا مَا مَاتُوا ، وَجِبَالٌ هِيَ أَوْتَادٌ لِأَرْضِهِمْ لِتَسْتَقِرَّ ، وَلَا تَمِيدَ بِهِمْ ، وَلِتُخْرِجَ لَهُمُ الْجَوَاهِرَ وَالْأَمْوَالَ ، وَلِيَنْحِتُوا مِنْهَا الْبُيُوتَ ، وَيَرْعَوْا فِيهَا الْأَغْنَامَ ، وَيَقْدَحُوا مِنْهَا النَّارَ الَّتِي فِيهَا دِفْؤُهُمْ ، وَبِهَا تَصْلُحُ أَغْذِيَتُهُمْ ، وَتَطِيبُ أَطْعِمَتُهُمْ ، وَمَاءٌ فِيهِ حَيَاةُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَمِنْهُ أَصْلُ كُلِّ شَيْءٍ يَرْوِيهِمْ مِنَ الْعَطَشِ ، وَيُنَقِّيهِمْ مِنَ الدَّنَسِ ، وَيُطَهِّرُهُمْ عَنِ النَّجَسِ ، وَقَدِ امْتَدَّ مِنْهُ بُحُورٌ تَجْرِي الْفُلْكُ فِيهِ ، تَحْمِلُهُمْ إِلَى الْمَكَانِ الْبَعِيدِ ، وَيَأْكُلُونَ مِنْهَا اللَّحْمَ الطَّرِيَّ ، وَيُعْثَرُ لَهُمْ عَنِ الْحُلِيِّ وَالطِّيبِ ، أَوْ نَبْعَتِ الْأَرْضُ لَهُمْ مِنْهُ مَاءً يَسُوقُونَهُ إِلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِيهَا لِيُنْبِتَ لَهُمُ الْمَآكِلَ الَّتِي يَعِيشُونَ بِهَا ، وَخَزَّنَتْ مِنْهُ مَا يَبْرُدُ لَهُمْ فِي
[ ص: 284 ] الْقَيْظِ لِيَسْتَلِذُّوا شُرْبَهُ ، وَيَفْتُرُ لَهُمْ فِي الشِّتَاءِ لِئَلَّا يُؤْذِيَهُمْ بَرْدُهُ حِينَ يَسْتَعْمِلُونَهُ ، وَأَنْعَامٌ لَهُمْ دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمَطَاعِمُ وَمَلَابِسُ ، وَفِيهَا لَهُمْ جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ ، وَحِينَ تَسْرَحُونَ ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ، وَتَتَّخِذُونَ مِنْ جُلُودِهَا بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ ، وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا ، وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا ، وَيَشْرَبُونَ مِمَّا فِي بُطُونِهَا مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ ، وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ، وَخَيْلٌ وَبِغَالٌ وَحِمْيَرٌ لِيَرْكَبُوهَا ، وَيَتَزَيَّنُوا بِهَا ، وَنَحْلٌ تَتَّخِذُ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ، وَمِنَ الشَّجَرِ ، وَمِمَّا يَعْرِشُونَ وَتَأْكُلُ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ، وَيَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ لَهُمْ شِفَاءٌ وَلَذَّةٌ ، ثُمَّ مَا وُجِدَ مِنْ خَلْقِ سَائِرِ الْأُمَمِ وَالْحَيَوَانِ ، وَمَا هُدِيَتْ لِمَا قُدِّرَ لَهَا مِنَ الْأَرْزَاقِ ، ثُمَّ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ ، وَفِي الْجَوِّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، وَفِي الْبَرَارِي ، وَالْبِحَارِ ، وَالْفَيَافِي وَالدِّيَارِ ،
[ ص: 285 ] وَالشُّعُوبِ وَالْجِبَالِ ، وَفِي تُخُومِ الْأَرْضِ وَظُلُمَاتِهَا وَحَوَادِثِ الدَّهْرِ وَخَطَرَاتِهَا مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي لَا يَبْلُغُهَا وَصْفُ وَاصِفٍ ، وَلَا يُدْرِكُهَا عِلْمُ عَالِمٍ ، وَكُلُّهَا يُنْبِئُ لِمَا يَقَعُ مِنَ الْعِبَرِ فِيهَا أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ مُكَوَّنَةٌ مَصْنُوعَةٌ مُدَبَّرَةٌ بِتَدْبِيرِ حَكِيمٍ عَلِيمٍ سَمِيعٍ بَصِيرٍ أَحَدٍ دَائِمٍ عَلَى سَبِيلٍ وَاحِدٍ ، غَيْرِ مُعَلَّمٍ وَلَا مُقَوَّمٍ وَلَا مُحْدَثٍ وَلَا مُدَبَّرٍ ، عَلِمَ مَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يُكَوِّنَهُ ، وَعَرَفَ لِكُلِّ شَيْءٍ مَا يُصْلِحُهُ ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِ كُلَّ شَيْءٍ شَاءَهُ ، وَانْبَسَطَتْ يَدُهُ فِي جَمِيعِ مَا أَرَادَهُ لَمْ يُعْجِزْهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ ، وَلَا مَنَعَهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ ، فَخَلَقَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا كَمَا شَاءَ ، وَقَدَّرَهَا ، وَجَعَلَهَا مُتَضَادَّةً ، وَقَوَّمَهَا وَسَبَّبَ لَهَا مَعَاشَهَا وَمَصَالِحَهَا ، وَحَرَسَهَا بِعَيْنٍ لَا تَنَامُ وَحَفِظَهَا بِلَا مُعِينٍ ، وَلَا نَصِيرٍ ، وَلَا هَادٍ ، وَلَا مُشِيرٍ ، وَلَا كُفْوٍ ، وَلَا شَرِيكٍ ، وَلَا ضِدٍّ ، وَلَا نَظِيرٍ ، وَلَا وَالِدٍ ، وَلَا نَسِيبٍ ، وَلَا صَاحِبَةٍ ، وَلَا وَلَدٍ ، وَمِنْ دَلَائِلِ الْبَعْثِ أَنَّ الْحَبَّةَ الْمَيِّتَةَ قَدْ تُدْفَنُ فِي التُّرَابِ لَيْسَ لَهَا وَرَقٌ
[ ص: 286 ] وَلَا غُصْنٌ وَلَا شِعْبٌ وَلَا ثَمَرٌ وَلَا لَوْنٌ وَلَا رِيحٌ وَلَا طَعِمٌ وَلَا حَرَكَةٌ ، فَيُمْكِثُهَا اللَّهُ فِي التُّرَابِ ، ثُمَّ يُحْيِيهَا فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ، فَيُخْرِجُهَا مِنْ مَدْفَنِهَا مُتَحَرِّكَةً بَعْدَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهَا حَرَكَةٌ ، وَتَخْرُجُ مِنَ التُّرَابِ مَعَ شِعْبٍ وَوَرَقٍ وَلَوْنٍ وَرِيحٍ وَطَعْمٍ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حِينَ دُسَّتْ فِي التُّرَابِ ، فَكَذَلِكَ الْإِنِسَانُ حِينَ يُدَسُّ فِي التُّرَابِ ، وَلَيْسَ لَهُ حَرَكَةٌ وَلَا رُوحٌ وَلَا سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ كَالْحَبَّةِ الْمَيِّتَةِ ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ مَعَ رُوحٍ وَحَرَكَةٍ وَسَمْعٍ وَبَصَرٍ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَلِكَ تِبْيَانًا لِعِبَادِهِ ، وَدِلَالَةً عَلَى مَعَادِهِ ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=33وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا ) ، وَقَالَ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=9وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ ) إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=11كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ) ، وَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=57كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) فَسُبْحَانَ الَّذِي
[ ص: 287 ] أَوْضَحَ دِلَالَتَهُ لِلْمُتَفَكِّرِينَ ، وَأَبْدَى شَوَاهِدَهَ لِلنَّاظِرِينَ ، وَبَيَّنَ آيَاتِهِ لِلْعَاقِلِينَ ، وَقَطَعَ عُذْرَ الْمُعَانِدِينَ ، وَأَدْحَضَ حُجَجَ الْجَاحِدِينَ وَأَعْمَى أَبْصَارَ الْغَافِلِينَ ، وَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
[ ص: 288 ] [ ص: 289 ] [ ص: 290 ] [ ص: 291 ] [ ص: 292 ] [ ص: 293 ] [ ص: 294 ] [ ص: 295 ] [ ص: 296 ] [ ص: 297 ]