الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1239 [ ص: 566 ] 41 - باب: من لم يظهر حزنه عند المصيبة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال محمد بن كعب القرظي : الجزع القول السيئ والظن السيئ . وقال يعقوب : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله [يوسف : 86]

                                                                                                                                                                                                                              1301 - حدثنا بشر بن الحكم ، حدثنا سفيان بن عيينة ، أخبرنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول : اشتكى ابن لأبي طلحة ، قال : فمات وأبو طلحة خارج ، فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئا ونحته في جانب البيت ، فلما جاء أبو طلحة قال : كيف الغلام ؟ قالت : قد هدأت نفسه ، وأرجو أن يكون قد استراح . وظن أبو طلحة أنها صادقة ، قال : فبات ، فلما أصبح اغتسل ، فلما أراد أن يخرج ، أعلمته أنه قد مات ، فصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما كان منهما ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما " . قال سفيان : فقال رجل من الأنصار : فرأيت لهما تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن . [5470 - مسلم : 2144 (23 ) - فتح: 3 \ 169]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              وذكر فيه حديث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس ، قال : اشتكى ابن لأبي طلحة ، فمات وأبو طلحة خارج . . الحديث ، وفي آخره : "لعل الله أن يبارك لهما في ليلتهما " . قال سفيان : فقال رجل من الأنصار : فرأيت لهما تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن .

                                                                                                                                                                                                                              الشرح :

                                                                                                                                                                                                                              حديث أنس هذا قال أبو نعيم في "مستخرجه " : يقال : إن هذا مما تفرد به البخاري ، وقال المزي : هذا حديث غريب تفرد به بشر بن الحكم يعني : شيخ البخاري ، قيل : لم يروه أحد عنه غير البخاري ، وكأنهما [ ص: 567 ] يشيران إلى التفرد بالسند لا المتن ; لأن المتن رواه عن أنس عندهما أنس بن سيرين ، وثابت عند مسلم ، وحميد عند أبي نعيم ، وعبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة عند الإسماعيلي ، وللبخاري : فقال - صلى الله عليه وسلم - : "أعرستم الليلة ؟ " قال : نعم ، قال : "اللهم بارك لهما " . فولدت غلاما فقال لي أبو طلحة : أحمله حتى تأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبعث معه بتمرات ، فحنكه وسماه عبد الله . ولمسلم : لما مات قالت لأهلها : لا تخبروا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أخبره ، فجاء فقربت له عشاء ، فأكل وشرب ، ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك ، فوقع بها ، فقالت : يا أبا طلحة ، أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ، ألهم أن يمنعوهم ؟ قالت : فاحتسب ابنك . الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              وروى معمر ، عن ثابت ، عن أنس أنه لما جامعها قالت له ذلك ، وللإسماعيلي : وكان أبو طلحة صائما . وللبيهقي : وكان أبو طلحة يحب الابن ، ولأبي داود : "يبارك لكما في غابر ليلتكما " .

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر ذلك ، فالكلام على ذلك من أوجه :

                                                                                                                                                                                                                              أحدها :

                                                                                                                                                                                                                              البث في الآية : أشد الحزن قال بعض السلف : قول العبد : إنا لله وإنا إليه راجعون . كلمة لم يعطها أحد قبل هذه الأمة ، ولو علمها [ ص: 568 ] يعقوب لم يقل : يا أسفى على يوسف [يوسف : 84] وقال سعيد بن جبير : لم تعط أمة من الأمم ما أعطيته هذه الأمة من الاسترجاع ، ثم تلا هذه الآية : يا أسفى على يوسف .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني :

                                                                                                                                                                                                                              هذا الابن المتوفى هو أبو عمير صاحب النغير ، قاله ابن حبان والخطيب وغيرهما ، ولما خرجه الحاكم وسماه قال : صحيح على شرطهما . و (فيه ) سنة غريبة في إباحة صلاة النساء على الجنائز . فإن فيه أن أم سليم ، كانت خلف أبي طلحة ، وأبو طلحة خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لم يكن معهم غيرهم .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث :

                                                                                                                                                                                                                              هدأ -بالهمز- سكن ، ومنه هدأت الرجل : إذا نام الناس . وأهدأت المرأة ولدها : سكتته لينام ; لأن النفس كانت قلقة شديدة الانزعاج بالمرض ، فسكنت بالموت ، ولذلك قالت : أرجو أن يكون قد استراح .

                                                                                                                                                                                                                              وقولها : (أرجو أن يكون قد استراح ) من حسن المعاريض وهو ما احتمل معنيين ، فإنها أخبرت بكلام لم تكذب فيه ، ولكن ورت به عن المعنى الذي كان يحزنها ، ألا ترى أن نفسه قد هدأ كما قالت بالموت وانقطاع النفس ، وأوهمته أنه استراح قلقه ، وإنما استراح من نصب الدنيا وهمها .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 569 ] الرابع :

                                                                                                                                                                                                                              فيه منقبة عظيمة لأم سليم بصبرها ورضاها بقضاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                              الخامس :

                                                                                                                                                                                                                              فلما أصبح اغتسل . فيه : تعريض بالإصابة ، وقد صرح بها في بعض الروايات ، وقوله : ( "لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما " ) يحتمل أن يكون خبرا ودعاء ، فأجاب الله تعالى قوله ، فحملت تلك الليلة بعبد الله بن أبي طلحة ، والد إسحاق ، راوي الحديث ، فحنكه - صلى الله عليه وسلم - وسماه ، وكان من خير أهل زمانه ، وآتاهما الله تعالى ذلك لصبرهما ، والذي لهما عند الله أعظم .

                                                                                                                                                                                                                              السادس :

                                                                                                                                                                                                                              الأولاد الذين أشار إليهم سفيان ، هم : القاسم ، وعمير ، وزيد ، وإسماعيل ، ويعقوب ، وإسحاق ، ومحمد ، وعبد الله ، وإبراهيم ، ومعمر ، وعمارة ، وعمر ، ذكرهم ابن الجوزي ، وعدتهم اثنا عشر .

                                                                                                                                                                                                                              السابع :

                                                                                                                                                                                                                              وهو فقه الباب : عدم إظهار الحزن عند المصيبة ، وترك ما أبيح لي من إظهار الحزن الذي لا إسخاط فيه لله تعالى ، كما فعلت أم سليم فإنها اختارت الصبر ، ومن قهر نفسه وغلبها على الصبر ممن تقدم ذكره في الباب قبل هذا فهو آخذ بأدب الرب جل جلاله في قوله : ولئن صبرتم لهو خير للصابرين [النحل : 126] .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 570 ] الثامن :

                                                                                                                                                                                                                              فيه من الفقه : جواز الأخذ بالشدة وترك الرخصة لمن قدر عليها ، وأن ذلك مما ينال به العبد رفيع الثواب وجزيل الأجر .

                                                                                                                                                                                                                              التاسع :

                                                                                                                                                                                                                              التسلية عند المصائب .

                                                                                                                                                                                                                              العاشر :

                                                                                                                                                                                                                              فيه : أن المرأة تتزين لزوجها تعرضا للجماع لقوله : (ثم هيأت شيئا ) أراد : هيأت شيئا من حالها .

                                                                                                                                                                                                                              الحادي عشر :

                                                                                                                                                                                                                              أن من ترك شيئا لله تعالى ، وآثر ما ندب إليه ، وحض عليه من جميل الصبر ، أنه معوض خيرا بما فاته ، ألا ترى قوله : (فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن ) . ولقد أخذت أم سليم في الصبر إلى أبعد غاية ، على أن النساء أرق أفئدة ; لأنا نقول : إن ما في نسائها ولا في الجلد من الرجال مثل أم سليم ; لأنها كانت تسبق الكثير من الرجال الشجعان إلى الجهاد ، وتحتسب في مداواة الجرحى ، وثبتت يوم حنين في ميدان الحرب ، والأقدام قد زلزلت ، والصفوف قد انتفضت . والمنايا قد فغرت ، فالتفت إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفي يدها خنجر فقالت : يا رسول الله أقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل هؤلاء الذين يحاربونك ، فليسوا بشر منهم .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية