الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              2779 [ 1578 ] وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجزي ولد والدا، إلا أن يجده مملوكا فيشتريه، فيعتقه.

                                                                                              رواه أحمد ( 2 \ 230 )، ومسلم (1510)، وأبو داود (5137)، والترمذي (1906)، وابن ماجه (3659).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله: لا يجزي ولد والدا ) من الجزاء الذي بمعنى المجازاة. [ ص: 344 ] والمعنى: أنه لا يقوم بما له عليه من الحقوق حتى يفعل معه ذلك. وقد بينا فيما سبق وجه مناسبة ذلك.

                                                                                              و (قوله: إلا أن يجده مملوكا فيشتريه، فيعتقه ) ظاهره: أنه لا يعتق عليه بمجرد الملك، بل: حتى يعتقه هو. وإليه ذهب أهل الظاهر، وقالوا: لا يعتق أحد من القرابة بنفس الملك، ولا يلزم ذلك فيهم. بل إن أراد أن يعتق فحسن. وخالفهم في ذلك جمهور علماء الأمصار، غير أنهم في تفصيل ذلك مختلفون. فذهب مالك فيما حكاه ابن خوازمنداذ : إلى أن الذي يعتق بالملك عمودا النسب علوا وسفلا خاصة. وبه قال الشافعي .

                                                                                              ومشهور مذهب مالك : عمودا النسب، والجناحان: وهما الإخوة. وذكر ابن القصار عن مالك : ذوو الأرحام المحرمة. وبه قال أبو حنيفة . ومتعلق الظاهرية من الحديث ليس بصحيح؛ لأن الله تعالى قد أوجب علينا الإحسان للأبوين، كما قال تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا [الإسراء: 23] فقد سوى بين عبادته وبين الإحسان للأبوين في الوجوب. وليس من الإحسان أن يبقى والده في ملكه، فإذا يجب عتقه، إما لأجل الملك عملا بالحديث، أو لأجل الإحسان عملا بالآية. والظاهرية لجهلهم بمقاصد الشرع تركوا العمل بكل واحد منهما للتمسك بظاهر لم يحيطوا بمعناه.

                                                                                              [ ص: 345 ] ومعنى الحديث عند الجمهور: أن الولد لما تسبب إلى عتق أبيه باشترائه إياه: نسب الشرع العتق إليه نسبة الإيقاع منه. ودل على صحة هذا التأويل فهم معنى الحديث والتنزيل.

                                                                                              وأما اختلاف العلماء فيمن يعتق بالملك. فوجه القول الأول والثاني: إلحاق القرابة القريبة المحرمة بالأب المنصوص عليه في الحديث، ولا أقرب للرجل من أبيه؛ فيحمل على الأب، والأخ يقاربه في ذلك؛ لأنه يدلي بالأبوة، فإنه يقول: أنا ابن أبيه.

                                                                                              وأما القول الثالث: فمتعلقه الحديث الثابت في ذلك؛ الذي خرجه أبو داود والترمذي من طرق متعددة. وأحسن طرقه: ما خرجه النسائي في كتابه من حديث ضمرة ، عن سفيان ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من ملك ذا رحم محرم فقد عتق ).

                                                                                              قلت: وهذا الحديث ثابت بنقل العدل عن العدل، ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بعلة توجب تركه. غير أن بعضهم قال: تفرد به ضمرة . وهذا لا يلتفت إليه؛ لأن ضمرة عدل، ثقة. وانفراد الثقة بالحديث لا يضره على ما مهدناه في الأصول، فلا ينبغي أن يعدل عن هذا الحديث. بل: يجب العمل به لصحته سندا، ولشهادة الكتاب له معنى. وذلك: أن الله عز وجل قد قال: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى [النساء: 36] وليس من الإحسان إلى الأبوين، ولا للقرابة استرقاقهم، فإن نفس الاسترقاق، وبقاء اليد على المسترق إذلال له وإهانة. ولذلك فسخنا على النصراني شراءه للمسلم على رواية، ولم نبق ملكه عليه في الأخرى. وإذا ثبت أن بقاء الملك إذلال، وإهانة؛ وجبت إزالته ورفعه عن الآباء والقرابة؛ لأنه نقيض الإحسان؛ الذي أمر الله به.

                                                                                              فإن قيل: فهذا يلزم في القرابات كلهم وإن بعدوا؛ قلنا: هذا يلزم من مطلق القرآن. لكن النبي صلى الله عليه وسلم قد [ ص: 346 ] خصص بعض القرابات بقوله: (من ملك ذا رحم محرم) فوصفه بالمحرمية، فمن ليس كذلك لا تتضمنه الآية، ولا الحديث. والله تعالى أعلم.

                                                                                              وفي المسألة مباحث تذكر في مسائل الخلاف.

                                                                                              ثم حيث قلنا بوجوب العتق، فهل بنفس الملك، أو يقف ذلك على حكم الحاكم؛ قولان عندنا:

                                                                                              والأول أولى لظاهر الحديث، ولأنه قد جاء من حديث الحسن عن سمرة : (من ملك ذا رحم محرم فهو حر) وهذا اللفظ يكاد أن يكون نصا في الفرض، ولأن بقاء الأب تحت يد الملك إلى أن ينظر الحاكم؛ فيه إذلال يناقض الإحسان المأمور به. فيجب وقوع العتق مقارنا للملك، وإنما صار إلى إيقافه على الحكم في القول الثاني للاختلاف الذي في أصل المسألة. قال بعض الأصحاب: فإذا حكم الحاكم بذلك وجب التنفيذ، وارتفع الخلاف. وهذا ليس بشيء؛ لأنه يلزم منه إيقاف مقتضيات الأدلة على نظر الحكام وحكمهم، وهذا باطل بالإجماع، ولأنه ترك الدليل لما ليس بدليل، فإن حكم الحاكم ليس بدليل، بل الذي يستند إليه حكمه هو الدليل. فإن اقتضى دليله وجوب العتق بنفس الملك؛ فقد حصل المطلوب، وإن اقتضى دليله إيقاف العتق على الحكم؛ فإما إلى حكمه، وهو دور، وإما إلى حكم غيره ويتسلسل.




                                                                                              الخدمات العلمية