الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      المسألة السادسة

                                                                                                                                                                                                                                      اعلم : أن هذا الدليل التاريخي العظيم يوضح غاية الإيضاح موقف المسلمين [ ص: 505 ] الطبيعي من الحضارة الغربية ، وبذلك الإيضاح التام يتميز النافع من الضار ، والحسن من القبيح ، والحق من الباطل ، وذلك أن الاستقراء التام القطعي دل على أن الحضارة الغربية المذكورة تشتمل على نافع وضار : أما النافع منها فهو من الناحية المادية ، وتقدمها في جميع الميادين المادية أوضح من أن أبينه ، وما تضمنته من المنافع للإنسان أعظم مما كان يدخل تحت التصور ، فقد خدمت الإنسان خدمات هائلة من حيث إنه جسد حيواني ، وأما الضار منها فهو إهمالها بالكلية للناحية التي هي رأس كل خير ، ولا خير ألبتة في الدنيا بدونها ، وهي التربية الروحية للإنسان وتهذيب أخلاقه ، وذلك لا يكون إلا بنور الوحي السماوي الذي يوضح للإنسان طريق السعادة ، ويرسم له الخطط الحكيمة في كل ميادين الحياة الدنيا والآخرة ، ويجعله على صلة بربه في كل أوقاته .

                                                                                                                                                                                                                                      فالحضارة الغربية غنية بأنواع المنافع من الناحية الأولى ، مفلسة إفلاسا كليا من الناحية الثانية .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعلوم أن طغيان المادة على الروح يهدد العالم أجمع بخطر داهم ، وهلاك مستأصل ، كما هو مشاهد الآن ، وحل مشكلته لا يمكن ألبتة إلا بالاستضاءة بنور الوحي السماوي الذي هو تشريع خالق السماوات والأرض ; لأن من أطغته المادة حتى تمرد على خالقه ورازقه لا يفلح أبدا .

                                                                                                                                                                                                                                      والتقسيم الصحيح يحصر أوصاف المحل الذي هو الموقف من الحضارة الغربية في أربعة أقسام لا خامس لها ، حصرا عقليا لا شك فيه :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : ترك الحضارة المذكورة نافعها وضارها .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أخذها كلها ضارها ونافعها .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أخذ ضارها وترك نافعها .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع : أخذ نافعها وترك ضارها .

                                                                                                                                                                                                                                      فنرجع بالسبر الصحيح إلى هذه الأقسام الأربعة ، فنجد ثلاثة منها باطلة بلا شك ، وواحدا صحيحا بلا شك .

                                                                                                                                                                                                                                      أما الثلاثة الباطلة : فالأول منها تركها كلها ، ووجه بطلانه واضح ; لأن عدم الاشتغال بالتقدم المادي يؤدي إلى الضعف الدائم ، والتواكل والتكاسل ، ويخالف الأمر السماوي في قوله جل وعلا : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة الآية [ 18 \ 60 ] .


                                                                                                                                                                                                                                      لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 506 ] القسم الثاني من الأقسام الباطلة أخذها ; لأن ما فيها من الانحطاط الخلقي وضياع الروحية والمثل العليا للإنسانية أوضح من أن أبينه ، ويكفي في ذلك ما فيها من التمرد على نظام السماء ، وعدم طاعة خالق هذا الكون جل وعلا : آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] ، أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله [ 42 \ 21 ] ، والقسم الثالث من الأقسام الباطلة هو أخذ الضار وترك النافع ، ولا شك أن هذا لا يفعله من له أقل تمييز ، فتعينت صحة القسم الرابع بالتقسيم والسبر الصحيح ، وهو أخذ النافع وترك الضار .

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يفعل ، فقد انتفع بحفر الخندق في غزوة الأحزاب ، مع أن ذلك خطة عسكرية كانت للفرس ، أخبره بها سلمان فأخذ بها ، ولم يمنعه من ذلك أن أصلها للكفار ، وقد هم صلى الله عليه وسلم بأن يمنع وطء النساء المراضع خوفا على أولادهن ; لأن العرب كانوا يظنون أن الغيلة - وهي وطء المرضع - تضعف ولدها وتضره ، ومن ذلك قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      فوارس لم يغالوا في رضاع     فتنبو في أكفهم السيوف

                                                                                                                                                                                                                                      فأخبرته صلى الله عليه وسلم فارس والروم بأنهم يفعلون ذلك ولا يضر أولادهم ، فأخذ صلى الله عليه وسلم منهم تلك الخطة الطبية ، ولم يمنعه من ذلك أن أصلها من الكفار .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد انتفع صلى الله عليه وسلم بدلالة ابن الأريقط الدؤلي له في سفر الهجرة على الطريق ، مع أنه كافر .

                                                                                                                                                                                                                                      فاتضح من هذا الدليل أن الموقف الطبيعي للإسلام والمسلمين من الحضارة الغربية هو أن يجتهدوا في تحصيل ما أنتجته من النواحي المادية ، ويحذروا مما جنته من التمرد على خالق الكون جل وعلا فتصلح لهم الدنيا والآخرة ، والمؤسف أن أغلبهم يعكسون القضية ، فيأخذون منها الانحطاط الخلقي ، والانسلاخ من الدين ، والتباعد من طاعة خالق الكون ، ولا يحصلون على نتيجة مما فيها من النفع المادي ، فخسروا الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين .

                                                                                                                                                                                                                                      وما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل وقد قدمنا طرفا نافعا في كون الدين لا ينافي التقدم المادي في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] ، فأغنى ذلك [ ص: 507 ] عن إعادته هنا ، وقد عرف في تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم كانوا يسعون في التقدم في جميع الميادين مع المحافظة على طاعة خالق السموات والأرض جل وعلا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأظهر الأقوال عندي في معنى العهد في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أم اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 78 ] ، أن المعنى : أم أعطاه الله عهدا أنه سيفعل له ذلك ، بدليل قوله تعالى في نظيره في سورة " البقرة " : قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده [ 2 \ 80 ] ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن ، وقيل : العهد المذكور : العمل الصالح ، وقيل شهادة أن لا إله إلا الله .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية