الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الفصل الثاني

فقه الصياغة في الشريعة

تمهيد :

ألمحنا سابقا إلى أن المقصود بالشريعة هـو الأحكام الدينية، التي تتعلق بضبط السلوك الفردي والاجتماعي للإنسان، ضبطا شاملا لكل أنواعه ومناحيه، والشريعة تقابل العقيدة، التي هـي أحكام تتعلق بما ينبغي الإيمان به من حقائق تصورية، من طبيعتها أن تتحمل بالتصديق العقلي، وإذا كانت العقيدة تمثل الأصل المبدئي للدين، فإن الشريعة تمثل الوجه التطبيقي له في واقع الحياة اليومية، وهي لذلك أحكام ذات صلة مباشرة بالمظاهر الواقعية للحياة، إذ هـي توجيه لتلك المظاهر وجهة ما يحقق مصلحة الإنسان.

ولما كانت أحكام العقيدة تهدف إلى الإيمان العقلي بجملة حقائق، تخبر بما هـو كائن، في مجال الألوهية والنبوة والبعث، وما يتعلق بها، فإنها جاءت أحكاما متصفة بالقطعية والثبات، [ ص: 58 ] بحيث لا ينالها في ذاتها، الاحتمال، أو التأجيل، أو الاستحداث، ومن دواعي ثباتها أيضا، أن تحملها يكون بالتصديق العقلي، الذي يخضع لمنطقية ثابتة منضبطة، هـي منطقية العقل في قوانينه الإدراكية، وأما أحكام الشريعة فإنها لما كانت متعلقة تعلقا مباشرا بالحياة في واقعها، وهو واقع يجري على منطق غير منضبط ولا مطرد تماما، فإنها كانت أحكاما تحمل من المرونة ما يتسع لاجتهاد عقلي في الترجيح والاستثناء والاستحداث، ليقع بذلك كله مداورة منقلبات الواقع، في طوارئه غير المنضبطة، ومداورة تهدف إلى تحقيق مصلحة الإنسان، من خلال تلك الأحكام، مهما كانت الظروف والأوضاع، التي تنقلب إليها الأوضاع.

وتتمثل هـذه المرونة في الأحكام الشرعية، في أن أكثر هـذه ا لأحكام أحكام كلية، تنفسح لصور تطبيقية عدة، ومثال ذلك حكم الشورى، الذي هـو حكم ديني واجب، وهو يتسع في تطبيقاته الواقعية لكيفيات متعددة، يحقق بكل واحدة منها التدين بهذا الحكم الواجب، وبالإضافة إلى ذلك، فإن الحكم الديني الواحد في مجال العادات، وهي أكثر أحوال الحياة، يدور مع الجنس الواحد من فعل الإنسان، بحسب ما تتحقق في أفراده العينية من مصلحة، فقد يكون الفعل الواحد في جنسه مأمورا به في فرد من [ ص: 59 ] أفراده إذا حقق مصلحة بحسب ظرفه، ومنهيا عنه في فرد آخر، يجر مضرة بحسب ظرفه أيضا، وقد قرر الإمام الشاطبي هـذا المعنى في قوله: إنا وجدنا الشارع قاصدا لمصالح العباد، والأحكام العادية تدور معه حيثما دار، فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز [1]

. وفسر هـذا الدوران في الحكم مع دوران المصلحة، بطروء العوارض والملابسات الظرفية، التي تجعل الفعل الواحد صالحا في حال، وضارا في حال، فيتغير حكمه الديني بحسب ذلك، وفي ذلك يقول: "اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة لمحالها على وجهين:

أحدهما: الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض، وهو الواقع على العمل مجردا عن التوابع والإضافات، كالحكم بإباحة الصيد، والبيع، والإجارة، وسن النكاح، وندب الصدقات غير الزكاة، وما أشبه ذلك.

والثاني: الاقتضاء التبعي، وهو الواقع على المحل، مع اعتبار التوابع الإضافات، كالحكم بإباحة النكاح لمن لا أرب له في النساء، ووجوبه على من خشي العنت، وكراهية الصيد لمن قصد فيه اللهو، وكراهية الصلاة لمن حضره الطعام، أو لمن يدافعه [ ص: 60 ] الأخبثان، وبالجملة كل ما اختلف حكمه الأصلي لاقتران أمر خارجي ". [2]

وإذا نظرنا في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية ألفيناها كثيرة التغير في مجرياتها، حتى إن الإنسان لا يستمر على حال في مزاولة حياته، بل هـو متحول أبدا، من نمط إلى نمط، ومن وضع إلى وضع، بحسب ما تطرأ عليه من ملابسات، وما يكسب من معارف بحقيقة الكون، وما يجدد من وسائل لاستثماره، وما ينتج عن كل ذلك من أنماط في التعامل الاجتماعي، وأشكال في التنظيم السياسي، فكيف يمكن للمسلم في هـذه الأحوال المتغيرة من حياته أن يلائمها جميعا مع أحكام الدين، التي لا تنص إلا على كليات الأفعال؟

إن ذلك يتم بعمل اجتهادي مستمر، هـو أقرب في طبيعته إلى اجتهاد الفتوى، ولكنها فتوى في أوضاع عامة، لا في أحداث شخصية جزئية، وفي هـذا الاجتهاد تصاغ من أحكام الدين العامة منظومة من وجوه تلك الأحكام وكيفياتها ومقاصدها، من شأنها أن توجه الأوضاع المستجدة بما يحقق المصلحة، وهي غاية الدين، [ ص: 61 ] وليست هـذه الصياغة أمرا هـينا، بل هـي على درجة كبيرة من الخطورة، باعتبار أنها اجتهاد دائم لجعل الحياة تتحقق على سمت ديني، مع تغاير أنماطها وملابساتها، وبقدر ما تكون هـذه الصياغة مترشدة، بقدر ما يكون في ذلك ضمان لجريان الحياة على سمت الدين المحقق للمصلحة، ومن أهم الأسباب المرشدة لها أن تكون محكومة بمبادئ عامة تجري بحسبها، وتكون لها عاصما من الزيغ بسبب من الهوى، أو الوهم، أو التقليد، ونحسب أن من أهم تلك المبادئ المرشدة للصياغة مبادئ ثلاثة: الواقعية، والتكامل، وتحري المقاصد، وفيما يلي بيان لها بعد ما نقدم بين يديها مزيد شرح لمدلول صياغة الشريعة، ولمحة عن تطبيقاتها في التراث الفقهي.

التالي السابق


الخدمات العلمية