الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الفصل الأول

فقه الصياغة في العقيدة

تمهيد

التدين بالإسلام يكون بكيفيتين متلازمتين: أولاهما، الإيمان بحقانية المنظومة النظرية، التي جاء بها البيان الديني، في شرحه للوجود القائم على إقرار توحيد الألوهية، وفي إخباره بالرسل الهداة، وإخباره بالحياة الأخرى، التي يتم فيها حساب الإنسان وجزاؤه. والإيمان كذلك بحقانية جملة التعاليم، التي بشر بها الوحي المحمدي، كما جاءت في القرآن الكريم وفي السنة الثابتة. والثانية التطبيق العملي لما جاء في هـدي الدين، من الأوامر والنواهي، المتعلقة بالسلوك في معناه الشامل. وقد وقع الاصطلاح على تسمية ما يتدين به بالكيفية الأولى بالعقيدة، وتسمية ما يتدين به بالكيفية الثانية بالشريعة.

والتدين بالعقيدة هـو الأصل، الذي ينبني عليه التدين بالشريعة؛ إذ الإيمان بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم الذي حمله الرسالة المشتملة على الشريعة هـو المبرر لأصل التدين بالشريعة أساسا؛ ولذلك فإن [ ص: 18 ] العلاقة بينهما علاقة تلازم، يفضي انفصالها إلى انخرام في التدين، كما أشرنا إليه آنفا.

وإذا كان التدين بالشريعة يتمثل في إجراء السلوك الفردي والاجتماعي، على حسب مقتضيات الوحي، في الأمر والنهي، كما هـو ظاهر، فإن التدين بالعقيدة يكون بالاستيقان الثابت بحقانية التعاليم العقدية، استيقانا لا يراوده الشك بأي حال، ثم اتخاذ تلك التعاليم المستيقنة مرجعا في التصرفات السلوكية كلها، سواء من حيث صياغتها أحكاما شرعية، أو من حيث تنزيلها في واقع الحياة. فالتدين بالعقيدة يشمل إذن التحمل التصديقي لها بالإيمان، والصدور عنها في كل تفكير وسلوك، وأيما قصور في هـذين الوجهين، يعتبر إخلالا بالتدين في جانب العقيدة.

وصياغة الشريعة، بالمعنى الذي حددناه في هـذا البحث، يبرره أن الأحكام الشرعية، فيها مجال واسع للاجتهاد العقلي، بالترجيح بين الاحتمالات، فيما هـو ظني من نصوص الأحكام، وباستحداث أحكام شرعية، فيما لم يرد فيه حكم، من مستحدثات النوازل، في حياة الإنسان، فبهذا الاجتهاد، يمكن صياغة الحلول الشرعية للأوضاع الواقعية، بحسب ظروفها الزمنية، ترجيحا واستثناء واستحداثا، بحيث تحصل من الأحكام المجردة خطة واقعية للتدين. أما العقيدة فهي حقائق مكتملة، لأنها تبين ما هـو واقع من [ ص: 19 ] حقيقة الوجود، فلا مجال فيها لاستحداث أحكام بالعقل، كما أنها وردت في النصوص على سبيل القطع، فلا مجال فيها للترجيح. إنها منظومة مكتملة ثابتة مهما تغيرت أوضاع الحياة الواقعية، فكيف يمكن أن تكون فيها صياغة تهدف إلى ترقية التدين في مجالها؟ وما هـي طبيعة تلك الصياغة؟

إن الصياغة في مجال العقيدة تتناسب في طبيعتها مع طبيعة العقيدة نفسها. فلما كانت العقيدة الإسلامية مكتملة ثابتة في ذاتها، والتدين بها يكون باستيقانها في التصور الذهني، والصدور عنها في التفكير والسلوك، فإن الاجتهاد في صياغتها يكون هـادفا إلى تحقيق هـذه الغاية، وذلك يتم بوجهين اثنين:

الأول: تقديم العقيدة للناس بطريقة من شأنها أن تقنع من لا يكون مقتنعا بها، وأن تعم الفهم والاقتناع، بالنسبة لمن يكون موقفه منها موقف القبول الجملي، الذي ينقصه الوعي بأبعادها الحقيقية لسبب أو لآخر من الأسباب. فطريقة التقديم هـي ضرب من الصياغة، التي نقصدها في بحثنا؛ لأنها تمثل خطة تشتق من واقع العقول المخاطبة، في كيفيات اقتناعها المتغيرة بتغير الثقافات، وتهدف إلى أن تصير أحكام العقيدة المجردة واقعا تصديقيا في أذهان المخاطبين.

والثاني: تقديم العقيدة للناس بحيث تكون - بعد الاقتناع بحقانيتها - مرجعا أصليا يصدرون عنه في الفكر والسلوك، وموجها [ ص: 20 ] للحياة في مظاهرها كلها، وذلك بترتيب قضاياها بحسب ما يتطلبه مجرى الأحداث في حياة الأمة، وإبراز الأبعاد العملية لحقائقها مهما كانت نظرية مجردة، وربطها بالمشاكل الواقعية الناجمة في الحياة، بما يظهر أنها الفرقان المصحح لكل انحراف، في سير الحياة عن وجهة الدين. وتقديم العقيدة على هـذا النحو، يحتاج إلى صياغة تعد المنظومة العقدية، بما يناسب الظروف الواقعية المتغيرة، ليقع التدين بها على الوجه المطلوب.

وللفكر الإسلامي تجربة ثرية في صياغة العقيدة مثل تجربته في صياغة الشريعة، وهي تجربة تراوحت بين ازدهار ناجع، وبين ضعف مخل. وسنحاول في هـذا الفصل أن نستعرض هـذه التجربة مستفيدين من ازدهارها، ومعتبرين بضعفها، في سبيل تبين أسس فقهية في صياغة العقيدة، يمكن أن تؤسس عليها في الواقع الراهن للمسلمين صياغة للعقيدة، تساعد على ترقية تدينهم، في الاستيقان بحقيقتها، والوعي بأبعادها، وفي الصدور عنها مرجعا أساسيا في كل فكر وسلوك. كما يمكن أن تؤسس عليها صياغة للعقيدة، تساعد في إقناع الجاهلين بها، والمتشككين فيها.

التالي السابق


الخدمات العلمية