الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
تمهيد

إن فهم الدين، وتمثل حقائقه، هـي المرحلة الأولى من مراحل التدين؛ ذلك لأن هـذا الفهم بالنسبة للمسلم يفضي إلى تبنى المفهوم على سبيل التصديق والاقتناع، وهو من جهة أخرى فهم وقع تحصيله من أجل أن يكون المفهوم واقعا في السلوك، يوجهه ويهديه. وبهذين الاعتبارين بحثنا في الجزء الأول من الكتاب فهم الدين على أنه جزء من التدين، وحاولنا بيان بعض قواعده الفقهية المنهجية.

وتعتبر مرحلة الفهم المرحلة الأساسية في التدين، باعتبار أنها يتوقف عليها تمثل حقيقة الدين، التي ستصبح عقيدة وسلوكا، فالخلل الذي يطرأ فيها، يفضي إلى أن التدين سيكون جاريا على باطل، غير مراد لله تعالى، بقدر ذلك الخلل الطارئ في الفهم، وهو ما يؤدي حتما إلى بوار في حياة الإنسان، بحسب الباطل الذي يجري عليه التدين، والحال أن التدين غايته تسديد الحياة بحقيقة الدين، وتحقيق مصلحة الإنسان، التي هـي الغرض الأعلى لأصل الدين. وباعتبار هـذه الأهمية لفهم الدين خصصنا له الجزء الأول من هـذا البحث.

والمرحلة الثانية من التدين، هـي مرحلة التنزيل، ونعني بالتنزيل صيرورة الحقيقة الدينية، التي وقع تمثلها في مرحلة [ ص: 15 ] الفهم، إلى نمط عملي، تجري عليه حياة الإنسان في الواقع، عقيدة موجهة لجميع مناشط الإنسان، في وحدة وتناسق، وسلوكا فرديا واجتماعيا، ينبثق من تلك العقيدة، ليوجه حياة الإنسان في جميع شعابها، وجهة تكون فيها جارية وفق حقيقة الدين وهدايته.

وإذا كان فهم الدين هـو الأساس في التدين، فإن تنزيله في واقع الحياة هـو الثمرة المبتغاة من أصل الدين، وهو لذلك يمثل في التدين المرحلة التي تكمل مرحلة الفهم، وتبلغ بالدين إلى الغاية من نزوله. ولعل المنزلة التي يتبوءها التنزيل في الدين الإسلامي لا تدانيها في الأهمية منزلة في أي دين، أو مذهب فلسفي آخر، سواء من حيث القيمة المعيارية، أو من حيث الشمول في مجالات التنزيل. ولذلك فإن الخلل الذي يطرأ في تنزيل الدين على واقع الحياة، يؤدي من طرف قريب في عصيان الأحكام، إلى المروق من الإسلام، كما رآه بعض المسلمين مثل المعتزلة والخوارج ، وهو يؤدي عند سائر المسلمين إلى وضع إيماني شديد الضعف يكاد لا يغني في ميزان الدين شيئا.

ويحتاج تنزيل الدين في واقع الحياة إلى فقه منهجي، يوازي ذلك الفقه الذي يكون به الفهم، ولكنه يختلف عنه في الطبيعة، لاختلاف الخصوصيات بين الفهم، وبين التنزيل، من حيث إن الفهم تكون فيه العلاقة الأساسية بين العقل وبين المصدر النصي [ ص: 16 ] للدين، في حين تكون العلاقة في التنزيل جدلية، بين العقل والمصدر النصي، وبين واقع الحياة، كعنصر أساسي في هـذه العلاقة.

ويتميز في تنزيل الدين في واقع الحياة، كمرحلة موازية لمرحلة الفهم، مرحلتان فرعيتان في نطاقها: مرحلة الصياغة، ومرحلة الإنجاز. أما الصياغة فهي تهيئة خطة شرعية، تنبني على ما حصل من فهم لحقيقة الدين، في هـيأتها المجردة، تهيئة تكون بها صالحة لمعالجة الأوضاع من حياة الإنسان، ذات الخصوصيات المكانية والزمانية، لمراعاة تلك الخصوصيات في تهيئة الخطة. وأما الإنجاز فهو العمل على إجراء تلك الخطة الشرعية إجراء عمليا على الواقع، بتكييف ذلك الواقع في مختلف مناحيه، بحسب ما تقتضيه ما انتظمته من الأحكام.

ولما كانت الأحكام الدينية تتنوع إلى أحكام عقدية، تتعلق بالإيمان القلبي، وأحكام شرعية، تتعلق بالسلوك العملي، مع ما ينشأ عن ذلك من اختلاف في كيفية التحمل الإنجازي بينهما، فإن كلا منهما يكون له نمط في الصياغة، يختلف عن الآخر، ولذلك فإننا في هـذا الباب سنفرع البحث إلى ثلاثة فصول: فصل في فقه الصياغة في العقيدة، وثان في فقه الصياغة في الشريعة، وثالث في فقه الإنجاز. [ ص: 17 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية