الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
59 - قوله: (ص): وخالف في ذلك فريق منهم: الإسماعيلي (يعني في كون قول الصحابي - رضي الله عنه - أمرنا بكذا ونحوه مرفوعا) .

قلت: من الفريق المذكور أبو الحسن الكرخي من الحنفية .

وعلل ذلك بأنه متردد بين كونه مضافا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إلى أمر القرآن أو الأمة أو بعض الأئمة أو القياس أو الاستنباط وسوغ إضافته إلى صاحب الشرع بناء على أن القياس مأمور باتباعه من الشارع. قال: وهذه الاحتمالات تمنع كونه مرفوعا.

وأجيب بأن هذه الاحتمالات بعيدة، لأن أمر الكتاب ظاهر للكل فلا يختص بمعرفته الواحد دون غيره.

وعلى تقدير التنزل فهو مرفوع، لأن الصحابي وغيره إنما تلقوه من النبي - صلى الله عليه وسلم -.

[ ص: 521 ] وأمر الأمة لا يمكن الحمل عليه لأنهم لا يأمرون أنفسهم.

وبعض الأئمة إن أراد الصحابة فبعيد، لأن قوله ليس بحجة على غيره منهم .

وإن أراد من الخلفاء فكذلك، لأن الصحابي في مقام تعريف الشرع بهذا الكلام فيجب حمله على من صدر عنه الشرع.

قلت: إلا أن يكون قائل ذلك ليس من مجتهدي الصحابة فيحتمل أن يريد بالأمر أحد المجتهدين منهم - والله أعلم - .

وأما حمله على القياس والاستنباط فبعيد، لأن قوله: أمرنا بكذا يفهم منه حقيقة الأمر (لا خصوص الأمر باتباع القياس).

تنبيهات:

الأول: قيل: محل الخلاف في هذه المسألة فيما إذا كان قائل ذلك من الصحابة غير أبي بكر رضي الله عنه وعنهم.

أما إذا قال أبو بكر -رضي الله عنه فيكون مرفوعا قطعا.

لأن غير النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأمره ولا ينهاه، لأنه تأمر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ووجب على غيره امتثال أمره.

حكى هذا المذهب أبو السعادات ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول وهو مقبول.

[ ص: 522 ] الثاني: لا اختصاص لذلك بقوله: أمرنا أو نهينا.

بل يلحق به ما إذا قال: أمر فلان بكذا أو نهى فلان عن كذا أو أمر أو نهى بلا إضافة وكذا مثل قول عائشة - رضي الله تعالى عنها – "كنا نؤمر بقضاء الصوم ..." الحديث.

وأما إذا قال الصحابي - رضي الله عنه - أوجب علينا كذا أو حرم علينا كذا أو أبيح لنا كذا، فهو مرفوع . ويبعد تطرق الاحتمالات المتقدمة إليه بعدا قويا جدا.

الثالث: إذا قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا أو سمعته يأمر بكذا، فهو مرفوع بلا خلاف ، لانتفاء الاحتمال المتقدم. لكن حكى القاضي أبو الطيب وغيره عن داود وبعض المتكلمين أنه لا يكون حجة حتى ينقل لفظه لاختلاف الناس في صيغ الأمر والنهي فيحتمل أن يكون صيغة ظنها أمرا أو نهيا وليس كذلك في نفس الأمر.

وأجيب بأن الظاهر من حال الصحابي – رضي الله عنه- مع عدالته ومعرفته بأوضاع اللغة أنه لا يطلق ذلك إلا فيما تحقق أنه أمر أو نهي من غير شك نفيا للتلبيس عنه بنقل ما يوجب على سامعه اعتقاد الأمر والنهي فيما ليس هو أمر ولا نهي.

الرابع: نفي الخلاف المذكور عن أهل الحديث، فقال البيهقي : لا خلاف [ ص: 523 ] بين أهل النقل أن الصحابي - رضي الله عنه - إذا قال: أمرنا أو نهينا أو السنة كذا أنه يكون حديثا مسندا- والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية