الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            8- حلول ومقترحات:

            - هل من حلول للإفادة من الكفاءات ووقف نزيفها؟

            - خطط للحد من الهجرات العلمية:

            يدعو الخبراء العرب واضعو تقرير التنمية البشرية [1] إلى وضع خطة منسقة وعمل جاد لتقليل الخسارة إلى أدنى حد ممكن، وذلك بالاستفادة من الكفاءات الـعربية المهاجرة أثناء وجودها في المغترب، أو تحويلها إلى مكسب هائل وذلك باجتذابـها إلى العودة إلى أوطانها، ولا يكون ذلك إلا بتقديم المحفزات اللازمة لها، محملة برأس مال معرفي كبير. ويعنـي ذلك إتاحة الشـروط الكفيلة بأن يكون رأس المال المعرفي هذا منتجـا ومحققا للذات الفـردية ولنهضة الأوطان والمجتمعات العربية في آن. وليس ذاك بالأمر العـزيـز؛ إذ يشترط قيام مشروع جاد لـبناء نهضـة إنسانية في الوطن العربي يجذب الكفاءات المهاجرة ويغريها بالعودة إلى بلد المنشأ؛ لتنال شرف المشاركة في مسيرة المعرفة والتنمية في أوطانها الأصلية.

            ولكـن لا بد قبـل الشروع في هـذه الخطوات البانية من معالجة بعض الأسباب الاجتماعية والسياسية والاقـتصادية التي تقف عائقـا أمام اكتساب المعرفة في الوطن العربي، وهي سمات تطلب إصلاحا أبعد [ ص: 158 ] مدى حتى تصفو أجواء اكتساب المعرفة وتخلو الطريق من الحواجز، وتعم حرية التفكير والتعبير ويشرك المجتمع في صنع قراراته، بعيدا عن الاستبداد والتسلط.

            ذلك أن السياسة في الوطن العربي إطار مرجعي أبعد أثرا في تحليل محددات اكتسـاب المعرفة في البـلدان العربية؛ وأساس لتهيئة متطلبات نشر المعرفة وإنتاجها بكفاءة وجودة. وكلما ازدادت أهمية المعرفة للوجود البشري وازداد دخول العالم في مرحلة من تداعي الحدود أمام المعارف والمعلومات والعلوم، وتلاشي المسافات واحتدام المنافسة في الاقتصاد وإنتاج المعارف، فتحت فرص وتحديات لمنظومة المعرفة الوطنية وازداد الميل إلى قيام تجمعات إقليمية تساعد على النهوض بمنظومة المعرفة، وإقامة مجتمع المعرفة، وكل ذلك يؤثر في تدبير الشأن السياسي ويكسب السلطة السياسية حمولة معرفية علمية وخلفية فكرية تنسجم مع الأمـة وتواكب آمال الشعوب ولا تعارضها، فإذا ما تأسست هذه السلطة على احترام الحريات العامة وجلب مصالح أبناء الأمة ودفع مضارها فستكون عاملا من عوامل الجذب والإغراء للنخبة المثقفة وللكفاءات العلمية العالية، وتكون عنصرا من عناصر تحبيب الوطن وخدمته ووضع مصالحه في مقدمة الأهداف، وتقلل من نزيف العقول؛ لأن نزيفهـا يهدد استقرار بلد المنشأ ويعجل بتخلفه وسقوطه في مهاوي الأمراض الاجتماعية والمعاطب الاقتصادية. [ ص: 159 ]

            فإذا تعينت أسباب استفحال ظاهرة الهجرة العلمية إلى الغرب، واقتنعت دول المنشأ بوجوب معالجة هذه المشكلة التي لا تزداد مع الأيام إلا تفاقما، فعليها أن تخطو خطوات عملية لوقف النزيف قبل فوت الأوان، وذلك باتخاذ قرار سياسي جريء، يرمي إلى تحسين البيئة العلمية والاقتصادية والثقافية، حتى نضمن المحافظة على الكفاءات العلمية العربية, واسترداد الكفاءات التي سبق لها أن هاجرت.

            ومن ثمرات هذا القرار السياسي الجريء تثبيت قاعدة علمية عربية للبحث العلمي وتأمينها حتى تصبح قادرة على سد حاجات الأمة من المنتوجات، مع تطوير هذا الإنتاج وتحسينه حتى يضاهي الناتج العام في الدول المتقدمة، ولا تؤمن هذه القاعدة العلمية الأساس إلا برفع حصص ميزانيات البحث العلمي في العالم العربي.

            ولا تبنى هذه القاعدة العلمية العربية إلا بالعناية بجوهر التنمية وأساسها وهو الباحث العربي، وذلك بسد حاجاته وتحسين أوضاعه ورفع مستوى معيشته، وتأمين استقراره النفسي والفكري وكل ما يلزمه للقيام بالبحث العلمي والتفرغ له في بلده.

            هذا الباحث العربي الذي تتوق نفسه إلى مغادرة الوطن والاغتراب في الخارج طلبا للحرية والكرامة وأسباب العيش المناسب، لم يأت من فراغ، ولكنه انبثق من نسق تعليمي معين في بلده، وعليه لا يتصور تصحيح للوضع إلا بإصلاح التعليم وتجويده: [ ص: 160 ]

            - سياسة نشر التعليم وتجويده في الوطن العربي:

            أصبحت الحاجة ماسة لإخراج التعليم من حالته التي هو عليها [2] ، والتي تؤدي إلى هجرة المتخرجين، وذلك لتجديد بنية هذا التعليم ومحتواه وأدواته ومناهجه تجديدا كاملا متكاملا، يتيح للمتعلمين أن تتفتق طاقاتهم المبدعة وتنبثق مهاراتهم الخاصة، من أجل بناء مجتمع عربي جديد ذي نشاط واقتدار.

            ومن شأن المتخرجين أن يستفيدوا كما وعمقا من التعليم الذي تلقوه فيسهم ذلك التكوين في تخريج أجيال تفيد وطنها بما اكتسبته من خبرة وترتبط به ارتباطا قويا وتعمل على ابتكار صيغ للتنمية والتطوير، وتستغني عن هجر وطنها إلى الخارج؛ لأنها ستعلم أن في تلك الهجرة تضييعا للأمة وحرمانا لها من فرص الإفادة من بنيها وهدرا وإبطالا لطاقاتها، لمصلحة المستفيد الأجنبي.

            وقد حدد برنامج المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة [3] سياسات نشر التعليم وتجويده، وتتلخص هذه السياسات في سبع: [ ص: 161 ]

            أولها: التعلم الذاتي، ويعني حمل المتعلم على التركيز على أدوات التعلم، وتتضمن هذه الأدوات في حالة التعليم الأساس القراءة والكتابة والتعبير الشفهي، والحساب وحل المسائل، والمعارف العلمية والاجتماعية الضرورية، وتكوين الدوافع والمضامين الأساس للتعلم كالمهارات اليدوية والتقنية، والقيم والاتجاهات الملائمة للعمل والإنتاج، والقدرة على البحث الذاتي عن المعرفة، بحيث يهدي التعلم الذاتي في نهاية المطاف إلى تزويد المتعلم بالمعارف والقدرات والمواقف والاتجاهات التي تمكنه من أن يعلم نفسه طوال الحياة، وأن يجدد نفسه بصفة مستدامة.

            ثانيها: تنويع التعليم وتجديد إطاره، ويعني ذلك أمورا كثيرة منها توفير فرص التعليم لجميع فئات العمر، وفتح باب التعليم النظامي لمختلف الأعمار، وفسح التعليم للعاملين داخل مواقع عملهم، وفي ذلك تعميم للتعليم على الجميع، وعدم اقتصار على مبدأ الاصطفاء.

            ثالثها: استغلال التقانات التربوية الحديثة ووسائل الاتصال والإعلام المتطورة، ومن شأن هذه الوسائل أن تزود المتعلم بأدوات قوية تساعده على أن يكون معلم نفسه، محبا للعلم والتعلم.

            رابعها: التقويم المستمر للتعليم، وذلك بتجديد التربية تجديدا يستجيب لحاجات نمو المتعلم والمجتمع ومستلزمات التنمية الشاملة، وتقويم حصيلة التجديد نفسه وقياس مدى نجاح العمل التربوي. [ ص: 162 ]

            خامسها: المعلم محور التجديد، تعقد السياسات التي ذكرت آنفا، أهمية قصوى على قيمة المعلم ومهامه الوظيفية؛ لأنه يتحول إلى مرشد إلى مصادر المعرفة والتعلم، ومصحح لأخطاء التعلم ومقـوم لنتائج التعلم، وموجه إلى ما يناسب قدرات كل متعلم.

            سادسها: إدارة تـطوير لا إدارة تسـيير، لا بد من إدارة تربوية مجددة وقـادرة على قيادة عملية التجديد. ويتطلب ذلك اعتماد سياسة "عدم المركـزية" في الإدارة، وإخراجها من مركزيتها المفرطة وذلك بتوسيع سلطات الإدارة في المناطق، وفسح قدر واسع من الحرية التربوية للإدارة، وإطلاعها دوما على جديد التربية، والعناية بتدريب الإدارة على الوسائل المناسبة لتنمية روح التعاون والتضامن، وربط التعليم بالعمل وبالمجتمع عموما.

            سابعها: المشاركة المؤثرة، لمختلف الفئات الاجتماعية في التعليم، كمشاركة الأسر والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص، في صنع السياسات وفي التمويل والإشراف.

            وعليه، يظل النهـوض بالتعليم في الوطن العربي حلا استراتيجيا؛ لأنه إذا حلت معضلة التعليم حلت معها كثير من المعضلات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، ويزداد حـل التعليم أهمية إذا شرع فيه في إطار تعاون عربي شامل وسعي دؤوب لبناء محيط عربي للتعليم والبحث العلمي يحمي المصالح الثقافية والحضارية والوطنية للأمة العربية الإسلامية، في [ ص: 163 ] مواجهة قوى العولمة، ويضع ضوابط للتعاون مع الخارج وضوابط لدخول مؤسسات التعليم العـالي الأجنبية في مجال التعليم العربي، وتحديد موقف عربي مشـترك بشأن التعامل مع القضايا الرئيسة التي لا يمكن كل قطر عربي أن يواجهها منفردا [4] .

            - من هجرة الكفاءات إلى استردادها:

            اتخاذ مبادرات وسياسات تعليمية لاستقبال العقول وإغنائها عن الهجرة، أو تحويل اتجاه الهجرة باستثمار عقول أصحابها:

            أما الكفـاءات العـربية التي سبـق لهـا أن استوطنـت ديـار الغرب واتخذت المهجر مستقرا لها، فمن الممكن جذبها بواسطة عقد مؤتمرات ونـدوات واستشارات، لإعادة بناء الثقـة وكسـب العقول المهاجرة وتحويل البلاد العربية من أماكن نبذ للكفاءات إلى أوطان جاذبة مستقطبة لأبنائها.

            ويستطيع أهل الحل والعقد وأصحاب القرار السياسي في العالم العربي أن يعقدوا اتفاقيات مع منظمات دولية وإقليمية، لبناء مشاريع ومراكز بحثية أكاديمية، الغاية منها جذب العقول المهاجرة لتولي قيادة هذه المراكز والإشراف عليها حتى تصير "مولدات" لطاقة التنمية الذاتية، وبذلك [ ص: 164 ] التعاون تستطيع الدول العربية أن تستثمر عقول أبنائها من المهجر، بل تتمكن من ذلك أيضا بوسائط الاتصال الرقمي من بعيد

            [5] ، هذا النوع من الاتصال الذي ينفع كثيرا مع المهاجرين الذين حصلوا على نمط خاص من التنشئة الاجتماعية هو النمط الغربي، ونوع خاص من الاندماج التدريجي في مراحل الجذب والاستقطاب الأولى في ديار الغرب. [ ص: 165 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية