الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
غربة اللسان من غربة الحضارة

كثيرا ما يتحدث الباحثون عن علاقة اللغة بالفكر، وتأثير الحضارة في اللغة وتأثرها بها، وليست اللغة العربية بدعا من سائر اللغات في هـذا الشأن؛ فقد كان لها نصيب غير يسير من التأثر بالحضارة العربية الإسلامية والتأثير فيها، وعرف عن العرب منذ القديم اعتزازهم بلغتهم، وشعورهم بتفوقها وقدرتها على التعبير عن أغراضهم ومستجدات حياتهم الاجتماعية والعقدية والعلمية، وكان هـذا مظهرا من مظاهر تحضر الناطقين بالعربية؛ لأنهم كانوا يصوغون خيوط أنماط حياتهم بنسيج عربي خالص، ولا يعتمدون على أنماط أخرى أجنبية عنهم إلا على سبيل الاستفادة والتفاعل لا الهيمنة والغزو. بل يعد انتقال العرب من الجاهلية الضيقة إلى حضارة الإسلام الواسعة أكبر [ ص: 49 ] عامل من عوامل نهضة لغتهم ورقي أساليبها واتساعها لمختلف أنماط التعبير، وأهم سبب من أسباب تهذيب لغتهم وسمو أساليبها واتساع نطاقها وتخلصها مما عسى أن يكون بها من خشونة وغرابة [1] .

وعندما أصيب المجتمع العربي الإسلامي بصدمات الغزو والاستعمار المتتالية تراجعت قدراته الإبداعية ومهاراته اللغوية [2] ، وتفككت الأواصر التي كانت تشد اللغة بالحضارة، فتخلى المتكلمون عن التعبير عن أنماط حياتهم، واستعاروا لغات الغزاة، وأكب الباحثون على مناهج البحث اللغوي في اللغات الأجنبية وأخذوا يطبقونها على لهجاتهم اليومية، حتى بات متداولا عندهم أن العلوم والمعارف تتطور في كنف اللغات الأوربية فقط، أما اللغة العربية فقد احتفظوا لها بصفة التعبير عن التقاليد والأصالة والذات لا غير؛ لأنها بزعمهم عاجزة عن التعبير عن أنماط الحياة الجديدة التي تفرضها المدنية الغربية على العالم. هـكذا نظروا إليها ! بينما هـي في حقيقة الأمر غريبة في بيئتها وبين أبنائها، ولا يمضي يوم في مسار التفوق الغربي على الأصعدة [ ص: 50 ] المختلفة إلا وتزداد العربية معاناة من الإهمال والغربة؛ فهي تعاني من انصراف المتكلمين العرب إلى اللغات الأجنبية بدعوى أنها لغات الانفتاح على العالم، وانصراف طائفة أخرى إلى لهجات إقليمية لإحياء ثقافات محلية، وانصراف طائفة ثالثة إلى اللهجة العامية الدارجة بدعوى أنها لسان الخطاب الشعبي والتداول اليومي.

وهذا وضع غير مريح فرض على اللغة العربية في العالم العربي، بل فرض عليها صراع لغوي مرير [3] بينها وبين تلك اللهجات واللغيات، وهو صراع غريب عنها أحدثته فئة اجتماعية تنتفع من هـذا الصراع وتقتات عليه؛ لتنتعش مشاريع لها وبرامج وتصورات ضيقة على حساب المشروع العربي الفصيح، أي إن تعويض العربية الفصـيحة بالأجـنبية أو العامـية أو اللهجة المحلية يفضي إلى نقض عرى الأمة وذهاب هـويتها، وهو صراع مرير - كذلك - لأن العربية لم تتنازل إلى يومنا هـذا عن حقها في الوجود ومكانتها في التعبير عن الثقافة والعلم ووجدان الأمة وعقيدتها، ويكمن سر تلك المقاومة في أن عموم المتكلمين العرب، ما زالوا متمسكين بالأساس [ ص: 51 ] الديني والحضاري للعربية الفصحى، ولو تركوا هـذا الأساس لضاعت العربية ولتلاشت أجزاؤها، مثلما تلاشت اللاتينية لفائدة لهجات أوربية أصبحت تدعى فيما بعد لغات حية.

و يتخذ هـذا الصراع في أجزاء الوطن العربي الكبير شكلين مختلفين، وذلك بحسب انفتاح هـذا البلـد أو ذاك عـلى المؤثرات الأجـنبية الوافدة أو ضعف انفتاحه عليها؛ فكلما ازداد هـذا الانفـتاح في بلد عربي ما ضعـفت ملكة أهله -على تفاوت بينهم- في أداء العربية الفصيحة، وتفاقمت مظاهر الازدواجية والثنائية اللغوية في المحاورات، وساعد هـذا الانفتاح وتلك الازدواجية على الانسلاخ المتدرج من المجـتمع، وعلى التطلع إلى المجـتمع الأجنبي وعـد من لم يكتسب لغة الأجنبي وعاداته ومعارفه جاهلا يفتقر إلى أسباب التقدم والحداثة، فأصبح مقياس التقدم هـو التجرد من صفات الذات وأصولها وتقمص خصائص (الآخر) ولغته ومعارفه وعاداته... ولا نتحدث هـنا عن غبطة هـذا الأجنبي بهذا الاتباع، بل اجتهاده في ترسيخ هـذا الوضع؛ حتى يصبح العالم العربي بعاداته ومنتجاته ولغاته سوقا لعرض سلع الأجانب ولغاتهم ومدنيتهم. وهكذا أدى هـذا الازدواج اللغوي القهري إلى تصدع وحدة الأمة الاجتماعية، وتمزيقها إلى طبقات ثقافية وعقلية، «وبهذه الوحدة المرضوضة الواهنة تمارس الحياة العملية وهي خائرة التماسك، فاترة التعاون». [4] [ ص: 52 ] هكذا ألفت العربية الفصحى نفسها مهملة ملقاة في رفوف المكتبات ورحاب الجامعات والمجامع العلمية والأكاديميات، وفي بطون الكتب القديمة، فتراجعت قدرات المتكلمين اللغوية وملكاتهم الفصيحة، وانعكس كل ذلك على مستوى التعليم وعلى كل ما يترتب على التعليم من تنمية القدرات العقلية والمهارات اللغوية، ومن تزويد المتكلم بملكة التواصل اللغوي السليم وتداول الخبرات والمعلومات والمعارف بصورة صحيحة. ويظهر أثر إهمال العربية الفصحى وسحبها من دواليب الحياة ومراكز الفكر والفعل والقرار، في أنماط الأخطاء التي يرتكبها التلاميذ والطلاب في جميع مستوياتهم الدراسية، ويتلقفونها من أنماط التعبير والأساليب الملقنة، ويستعيرونها من اللهجات السائدة.

التالي السابق


الخدمات العلمية