الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الخامس: اقتحام الأبواب المغلقة

خلت الساحات اللصيقة بالجماهير وعامة الناس عن العاملين للإسلام ردحا ليس بقصير، خرجوا منها وأفرغوها لغيرهم، واحتموا بعرصات المساجد ودور التعبد، يحصرون التدين كله والعبادة جميعها في الشعائر الظاهرة والتعبديات المحضة، حتى مر الناس بعهد يحرم فيه الذكر والتذكر في غير المساجد، ويحظر فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقديم الموعظة الحسنة، أو المجادلة بالحسنى إذا ابتعد عن سواري المسجد.. ووصلوا إلى زمان يدان من يدعو إلى الله، ويجرم من يذكر الناس بربهم ودينهم، ويوصم بالجهالة والضآلة من أرخى لحيته اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وتأسيا به، بينما يعظم ويقدم ويتابع ويرضى عمن يرخيها اتباعا لملحد، أو مشرك، أو ضال!!! [ ص: 178 ]

وقسمت الحياة الزمنية لأغراض التغييب الدعوي إلى دنيوي وديني، وإلى شرعي ومدني، والدنيوي كان مدلولا لكل ما تعلق بمصالح الجماهير والعامة، والديني ما تعلق بالممارسات التعبدية الفردية.. والشرعي اصطلح على ما ارتبط بالتعبديات والشعائر الظاهرة المعدودة المحدودة عددا ووقتا، بينما المدني أريد به كل علم أو عمل يسهم في رقي الناس وتسهيل مطالبهم وتيسير الحياة لهم، فانفصل كل ما التصق بالناس وجماهيرهم عن مدلول الدين، فوقع التغييب الحضاري والفكري، يسطو على العقول والقلوب، فغيب الدعاة عن ساحات العمل العام.

وبطـول الأمد صـار ذلـك التغييـب تغيـبا ذاتيـا اختياريا عـلى حساب ما كان من قبل ضروريا، ثم أصبح نهجا يبحث له عن أصول في الشرع من نص الكتاب أو روايـة سنة أو واقع سيرة أو تاريخ أمة من أمم الدعـوة السالفة ليصبغ بالشرعية الدينية، يقـرأ له قـول الله تعـالى في قصة أهل الكهف:

( إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ثم بعثناهم لنعلم [ ص: 179 ] أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ) (الكهف:10-13) ..

أو قول الله تعالى في تصريح إبراهيم عليه السلام : ( وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا ) (مريم:48) ،

أو قوله الآخر عند إعلانه: ( إني ذاهب إلى ربي سيهدين ) (الصافات:99) .

وما يكون ذلك منهم إلا بعد المبادرة بالدعوة، وبذل الحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبيان الخير والإرشاد إليه، ثم من بعد ذلك إذا ما أوقر المدعوون الآذان عن سماع الحق، وأغلفوا العقول عن التفكر فيه والاقتناع به، وأوصدوا القلوب عن القبول، وأبوا الحق الذي بذل، والخير الذي أرشد إليه، والمعروف الذي أمر به،

وردد لسان مقالهم: سمعنا وعصينا، ولسان حالهم: ( واسمع غير مسمع ) ، ( ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ) ، لم يـبق إلا الاعتزال والهجر والفرار بالبقية في النفس والناس.

أما قبل البذل والتبيين والسعي إلى التمكين والدعوة إلى الدين; فلا يبادر بالانطواء والاعتزال والفرار. [ ص: 180 ]

وليس المراد هو الكلام على الاعتزال عند إطباق الرفض، والإجماع على الصد، وإنما مرادنا الكلام على التخلي عن الساحات المتاحة ولو على عسر، والوقوف على بعد من أبواب الدخول على الناس وإن احتاج نوع كلفة، وانحصار الإسلام في بعض الشعائر والشرائع على غير ضرورة قصوى.

والأصل في الملأ الأدنى من دعاة الباطل وتجار الرذيلة المعرضين عن الذكر إغلاق الأبواب دون الدعاة، والصد عن سبيل الله، وليس هذا مانعا من السعي لولوج تلك الأبواب المغلقة، ولو كان على عتباتها الجبابرة أو كان حراسها الطغاة العتاة، وإنما الواجب على حملة الحق الوصول إليها واقتحامها بكل سبيل يتاح، ليقذفوا حقهم على باطل حراسها فتفتح وتفتح من ورائها العقول والقلوب. ولقد أوحى الله تعالى لنبيه موسى عليه السلام بذلك، يبلغ به أتباعه ويوافقه أهل الخشية ممن عرف السنة في مصير الباطل والحق مهما اشتد ساعد الباطل أو اعتمد على ركن شديد; فلا يلبث حتى يزول إذا جاء الحق وحملته،

فحين قال موسى لقومه: ( يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ) (المائدة:21) ،

وقال الذين نسوا الله سبحانه [ ص: 181 ] لا ينفكون عن أسباب الأرض العاجزة: ( يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ) (المائدة:22) ،

عندئذ برز الذين أنعم الله عليهم بخشيته فعلموا مواضع الضعف من مواطن القوة، وتلجلج الباطل من ظهور الحق، وأهل العلم هم أهل الخشية: ( ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) (المائدة:23) .

اقتحام الأبواب سنة دعوية ومقصد ضروري

إنها سنة دعوية: ( ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ) .. فمطلوب الدعوة إذن (اقتحام الأبواب المغلقة) ، كل الأبواب المغلقة، مما يستدعي وجود الدعاة والعاملين للإسلام أو بالإسلام في كل ساحة وباحة ومكان وميدان وبيت وناد وشارع وطريق، في كل وزارة أو مصلحة أو مؤسسة أو مصنع أو بنـك أو لجنـة أو مجلس، فلا يلتقي ثلاثة ليس فيهم أحدهم إلا بدا التقصير وشان، وما اجتمعت طائفة من الناس غاب فيه أحدهم إلا زاد القصور وبان، مهما كان حالهم، ومهما تفاوتت درجات عطائهم ونفعهم وجهادهم واجتهادهم، ومهما كانت مراتبهم في الفقه والدعوة لا بد من حضورهم وشهودهم، بل إن اقتحام الأبواب [ ص: 182 ] المغلقة لولوج كل ساحة مقصد ضروري، وذلك من وجوه:

أولها: خلو هذه الساحات والميادين في أرض الله ومجتمعات الناس عن التحقق بالإسلام، إذ انفراد الشيطان وأوليائه بساحة تفريغ لها من الخير والحق وضياع للدين.. وحفظ الدين مقصد ضروري.

الوجه الثاني: حصر الدعوة والعمل في جانب أو ركن قصي، ولو كان عرصة المسجد، انحصار بالإسلام وإقصاء به عن حياة الناس وهمومهم، والإسلام معنى جامع لكل ما يحيي،

وكما نادى القرآن: ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) (الأنـفـال:24) ،

فإخراج شـأن مـما يحيي الناس لا يقبله الإسلام، إذ هو سلب لصلاحياته، وجز لصلاحه، وتنقيص لمهامه، وذلك هو الرهبانية، ولا رهبانية في الإسلام.

الوجه الثالث: أن الحق إما أن يكون مـوجودا في كل مكان أو يجاء به، لأن الحق إذا جاء زال بوجوده الباطل والمراء.. ونفي الباطل وإزالته مطلب ضروري.

الوجه الرابع: تخفيف وطأة المخالفة للشرع، أو إخمال تعاليم [ ص: 183 ] الإسلام وآدابه، بوجود حملة الحق الموافقين لمطلوب الشرع والملتزمين بتعاليمه، ولو كان بعضهم سلبا على الدعوة.

الوجه الخامس: أن قذف الحق على الباطل هو هدي الإسلام ومقصود الدعوة، ولن يقوم به أو يجيده إلا حملة الحق، فكان وجودهم أينما وجد الباطل مطلبا ضروريا.

الوجه السادس: أن وجودهم في كل موقع يعطيهم القدرة على تشخيص علل التدين وأمراض المجتمع، وبالتالي القدرة على توصيف العلاج وتقدير المواقف، والتعرف على المداخل وانتقاء الوسائل في استقطاب الجماهير.

الوجه السابع: أن المشاركة والحضور الدعوي في كل تجمع وتلاق غالبا ما يكون إيجابا وتصدرا، وفي ذلك رعاية لمصالح الجماهير ومشي بالبر والإحسان، والإحسان مفتاح الولوج إلى القلوب وحبال أسرها، فلا تأنف معه ولا تستنكف إلا قليل منها. ولم يكن اقتحام العقبة الكبرى -باب الخلود- إلا بباقات الإحسان وأيادي البر والخير، والتي فكت الرقاب وأطعمت اليتيم والمسكين أيام المسغبة، تتواصى بالمرحمة بالناس والصبر على رعاية مصالح [ ص: 184 ] الجمـاهير، قـال تعالى: ( فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة أولئك أصحاب الميمنة ) (البلد:11-18) .

إن كان اقتحام العقبة الكبرى وباب الوصول إلى رحمة الرحمن بالإحسان، فلا يتردد أن اقتحام العقبة الصغرى وولوج الأبواب المغلقة على الدعاة في دار التكليف بالإحسان.

وإن من أسباب الاصطفاء والخيرية: السعي بالإحسان، وتقديم الخير للناس، وإن المصطفين الأخيار من أنبياء الله -عليهم السلام- كانوا يمشون في الناس بالخير والإحسان حتى صاروا أولي الأيدي مـع بصائر العلم والدين، وهم قدوة الدعاة:

( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ) (ص:45-47)

[1] [ ص: 185 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية