الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الخامس: معروفية الخطاب

لا يكون قد امتثل من ألقى خطابه الدعوي دون أن يعرف مصيره، أهو مما يمكن قبوله؟ أم هو مما يغلب رده ورفضه؟ ويجب أن لا يغفل عن حقيقة خطاب الدعوة; فهو ليس قولا سهلا يستساغ من أول الأمر، بل هو قول ثقيل ثقل على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنه وحمله الجن والإنس، وبذلك جاء وصفه في قوله سبحانه وتعالى : ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) (المزمل:5) [1] ، ووصف حملته -الإنس والجن- (بالثقلين) .

وخطـاب موصوف بالثـقل لا بد فيه من بحث بتريث وتأن عن عناصر تجعله مقبولا مستساغا، وعن عوامل تسهله ليسمع، وإلا فما الجدوى من دعوة تلقى دونما مجيب أو مستمع يتقبلها؟ فكما أنه يجب على المدعو أن يسمع ويعقل; يجب على الداعي [ ص: 102 ] أن يلقي عليه قولا يسمع ويعقل. فشرط التكليف -كما هو معلوم لدى الفقهاء والأصوليين- أن يكون الخطاب مفهوما لدى المكلف، وأن يكون المكلف قادرا على فهم الخطاب [2]

لذا، كان شرط الخطاب أن يكون موصوفا بالمعروفية،

وقد قال تعالى عن خطابه: ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ) (البقرة:89) .

ويؤكد أنه معروف للذين أوتوه فقال: ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ) (البقرة:146) ..

والحق كان معروفا وإن أنكره المبطلون، وقد قال سبحانه وتـعـالـى: ( ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ) (المائدة:83) ..

ورسل الله حملة خطابه ودعوته -عليهم السلام- كانوا [ ص: 103 ] مـعـروفين وإن أنكروهم عنادا، قال سبحانه وتعالى : ( أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ) (المؤمنون:69) .. بل رسله كلهم كانوا معروفين بدعوتهم وخطابهم وأشخاصهم،

كما قال تعالى: ( والمرسلات عرفا ) (المرسلات:1)

[3]

وآياته تعالى معروفة غير منكورة،

كما قال تعالى: ( وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون ) (النمل:93) .

ونعم الله لا تنكر لأنها معروفة للشاكرين،

وقد قال سبحانه عن منكريها: ( يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون ) (النحل:83) ..

فلم يبـق شيء يرتبط بخطـاب الدعـوة وحقيقته وبحملته من الملائـكة والرسل إلا وصار معروفا، وهـذا مـا نريـده بمعروفية الخطاب. [ ص: 104 ]

فالمطلوب أن يكون القول معروفا:

- ( وقلن قولا معروفا ) (الأحزاب:32) ..

- ( وقولوا لهم قولا معروفا ) (النساء:5) ..

- ( قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى ) (البقرة:263) ..

- ( إلا أن تقولوا قولا معروفا ) (البقرة:235) ..

والمطلوب كذلك أن يكون الأمر معروفا:

- ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف ) (النساء:114) ..

- ( خذ العفو وأمر بالعرف ) (الأعراف:199) ..

وكذلك التراضي والإمسـاك والتسريح والنفقة والمتاع والمعاشرة بين الأزواج، والوصية للأقارب، والحسنة للأولياء، والنجوى والطاعة.

فتكون الخطاب والحكم والامتثال بهما ائتمارا وانتهاء بالمعروف، فلا يصح -إذن- أن يكون خطابنا للناس غير معروف لديهم.

أما ما قاله قوم شعيب لنبيهم عليه السلام : ( قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ) (هود:91) ،

فالصحيح أنهم نفوا فهمهم [ ص: 105 ] لدعـوة شعيـب احتقـارا لكـلامه مـع كـونـه مفهـوما لـديهـم معلوما عنـدهم،

وهذا ما يؤكده ما بعده: ( وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ) ،

وإلا فما وجه التعليل بكونه ضعيفا وأنه ليس بعزيز عليهم [4]

؟ فلا يشك أن دعوة شعيب كانت معروفة مفهومة، وأنـهم إنمـا أرادوا أن يقـولـوا لـه: لا نفقه خلافك لنا بدعوتك الجديدة وأنت ضعيف لا تقوى لمخالفتنا ولست عزيزا علينا، ولا نرقب فيك إلا ولا ذمة، ولولا رهطك لرجمناك.

فالخطاب الدعوي يجب أن يكون معروفا..

ومعروفية الخطاب تتحقق من جانبين، من جانب الخطاب نفسه، ومن جانب الداعية.

أولا: جانب الخطاب

أما معروفية الخطاب; فتتحقق بأمور، أهمها ما يلي:

الأمر الأول: مخاطبة الناس بما يعرفون

فإن مخاطبتهم بما لا يعرفون فتنة لهم وفساد عريض، وهو من [ ص: 106 ] أقوى أسباب التكذيب، " قال علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله. " [5]

ولذلك جاء أمر الله سبحانه وتعالى : ( خذ العفو وأمر بالعرف ) (الأعراف:199) ،

والعرف كما عرفه العلماء: هو ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطبائع بالقبول [6]

يقول سيد قطب : " وأمر بالعرف "، هو الخير المعروف الواضح الذي لا يحتاج إلى مناقشة وجدال، والذي تلتقي عليه الفطر السليمة والنفوس المستقيمة.. والنفس حين تعتاد هذا المعروف يسلس قيادها بعد ذلك، وتتطوع لألوان من الخير دون تكليف، وما يصد النفس عن الخير شيء مثلما يصدها التعقيد والمشقة والشد في أول معرفتها بالتكليف.. ورياضة النفوس تقتضي أخذها في أول الطريق بالميسور المعروف من هذه التكاليف، حتى يسلس قيادها وتعتاد هي بذاتـها النهـوض بمـا فـوق ذلك في يسر وطواعية ولين [7] [ ص: 107 ]

الأمر الثاني: المخاطبة على قدر الفهم

فيـتـخيـر المعـاني القريبة من فـهم المخـاطـب، ولهـذا " كـان ابن مسعـود رضي الله عنه يقول: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " [8]

وهكذا كان أئمتنا الأعلام الذين حفظ الله بهم الدين والعلم، فإنهم كما كانوا يفقهون الأحكام يستنبطوها من النصوص، كانوا يفقهون أحوال الناس وقدراتهم فيخاطبونهم بما يفهمون، يستنبطون ما يناسب عقولهم وأفهامهم.. والإمام الشافعي يمتدح الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمهما الله تعالى، يقول عنه: لو أن محمد بن الحسن كان يكلمنا على قدر عقله ما فهمنا عنه، ولكنه كان يكلمنا على قدر عقولنا فنفهمه [9]

والقاعدة: ( فقل لهم قولا ميسورا ) (الإسراء:28) . [ ص: 108 ]

الأمر الثالث: الابتعاد عن التفاصح

ولن يكون داعية، مهما كان ظاهر العلم فصيح اللسان، مقبولا لدى الجماهير وهو يتفاصح ويتشدق، أو يتقعر ويتكلف ويتصنع، أو يتخلل الكلام كما تتخلل البقرة الكلأ، لن يكون مقبولا حتى يكون عدلا في عرضه وبلاغته وفي حواره وموعظته، يسعى إلى التفهيم لا التفخيم، ويتقصد الإفهام لا الإفحام، فإذا تفاصح وتشدق وثرثر وتفيهق، ذهبت بركة دعوته، وصحة كلامه، وعظة بلاغه، فيسيء في موضع الإحسان، ويفسد في موقع الإصلاح، وهؤلاء من نبه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يذمهم ويقصيهم عنه ويعلن بغضه لهم، ( يقول صلى الله عليه وسلم : إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله! قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون ) [10]

.. (والثرثار) هو الكثير الكلام، و (المتشدق) : الذي يتطاول على [ ص: 109 ] الناس في الكلام، ويتكلم بملء فيه تفاصحا وتعظيما لكلامه، و (المتفيهق) هو الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه ويغرب به، تكبرا وارتفاعا وإظهارا للفضيلة على غيره [11]

( وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة ) [12]

ثانيا: جانب الداعية

وأما معروفية الداعية، فمقتضاها أن الداعية لا بد أن يكون معروفا بأي نوع من أنواع المعرفة، حتى يكون المتلقي متهيئا للسماع والقبول، فمن كان مغمورا غير معروف فإنه يحتاج إلى معرفات كثيرة، وقد تكون عسيرة، ليقدم بين يدي دعوته وخطابه نفسه.. ولو أنا نظرنا إلى رسل الله عز وجل ممن بلغ رسالاته ونصحوا لأمتهم وخاطبوا أقوامهم بدعاية الحق، نجدهم قد توفروا بكل عناصر المعروفية، وما ظهر منها ثلاثة، وهي: [ ص: 110 ]

1- معروفية الجنس وهي أن الرسول الذي يختار لقوم من الأقوام وأمة من الأمم كان معروفا عندهم، لأنه من جنسهم ومن أنفسهم غالبا، بل قد لا يكاد يشذ نبي من الأنبياء عن هذا العنصر التعريفي، فكان مقبولا ابتداء ومن ثم يسهل عليه التخاطب والإلقاء، ولا يخفى هذا العنصر على قارئ القرآن، والله تعالى يخبر أنه أرسل إلى عاد أخاهم هودا، وإلى ثمود أخاهم صالحا، وإلى مدين أخاهم شعيبا، وأنه أرسل إلى الأميين من العرب من أنفسهم محمدا صلى الله عليه وسلم ،

يؤكد ذلك، يقول عز وجل : ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ) (الجمعة:2)

ويقول: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) (التوبة:128) .

2- معروفية السيرة والرسل -عليهم السلام- حين ابتعثهم الله تعالى وأرسلهم داعين إلى دينه، لم يكونوا غرباء، بل كانوا معروفين، عاشرتهم أقوامهم سنين حتى خبروا سيرتهم، أنقياء أصفياء كراما بررة.. وذات العنصر مهم في كل داعية حامل للحق والفضيلة يرجو بثها في الأرجاء. [ ص: 111 ]

فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصدع بدعوته وجمع قومه وعشيرته، قدم بين يدي ذلك بتعريف سيرته التي لم تخف عنهم حتى أقروا بنقائها، يقولون على لسان واحد: (ما جربنا عليك كذبا) . عنـدئذ أعـلن دعوتـه وجهر بها فيهم على مسلمة ما أقروا به أنه لا يكذب.

وهـذا ما نجـده فـي قـوم صالح حتى قالوا له: ( قد كنت فينا مرجوا قبل هذا ) (هود:62) ..

3- معروفية اللسان وكمال معروفية الداعية يتم بمعروفية لسانه، فلم يرسل الله رسولا إلى قوم بغير لسانهم، فغرابة اللسان وعجمته تضيع الدعوة وتفسد الخطاب، لذلك أكد رب العزة أنه ما أرسل رسولا إلا بلسان قومه،

فقال سبحانه وتعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) (إبراهيم:4) .

فهذه جوانب من معروفية الخطاب، ينفع الدعاة التنبه لها. [ ص: 112 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية