الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
3 - اعتماد منهج التكوين

هذا، وأما الخاصية الثالثة للتربية النبوية فهي كما - تقرر في عناصر المقارنة بين التوحيد والوساطة - اعتماد منهج التكوين، دون منهج التلقين! وهو أمر واضح في التربية النبوية، تشهد له الأصول الصحيحة الصريحة، شهادة متواترة المعنى. وذلك أنا قررنا قبل، أن اعتماد النصوص الشرعية في حد ذاته،ومدارستها، كمادة تربوية، لا ينتج عنه إلا التكوين.

ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما تبين، يعتمد شيئا غير القرآن، وسنته المطهرة، باعتبارها تفسيرا له. وكان يوجه الصحابة إلى اكتشاف قدراتهم الذاتية،ومواهبهم الفطرية، وتنميتها بالعمل قائلا: ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) ، محاربا بذلك العقلية الاستهلاكية التواكلية، ويقر المختلفين من أصحابه، على الاجتهاد ، المصيب منهم والمخطئ، على السواء كما هـو [ ص: 75 ] معلوم في حديث بني قريظة المشهور [1] ، مربيا إياهم ومشجعا لهم على التزام العقلية الاجتهادية المبادرة وكثيرة هـي المفاهيم التي أوصلها صلى الله عليه وسلم ، إلى أصحابه عن طريق السؤال أولا، حتى إذا سئلوا، أعملوا فكرهم، محاولين التوصل إلى الإجابة، فإما أجابوا، وإما عجزوا، ويكونون حينئذ،قد تلقوا درسا في ضرورة التفكير الشخصي، والاستقلال العقلي، في الفهم والاستنباط، ثم يقرهم على، جوابهم، أو يصحح لهم بإجابته صلى الله عليه وسلم . ونماذج هـذا الأسلوب كثيرة جدا، منها ( قوله صلى الله عليه وسلم : أتدرون ما العضه؟ نقل الحديث من بعض الناس إلى بعض؛ ليفسدوا بينهم ) [2] ، ( وقوله: أتدرون ما الغيبة؟ ) [3] ، ( وقوله أيضا: أتدرون من المفلس؟ ) [4] ، ( وقوله أيضا: أتدرون ما هـذان الكتابان؟ ) [5] ، مشيرا إلى يمينه وشماله، ( وقوله كذلك: هل تدرون ما الكوثر؟ ) [6] ، [ ص: 76 ] ( وقوله: يا أبا ذر! أترى أن كثرة المال هـو الغنى؟ ) [7] ، إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية، المبنية على السؤال والجواب.

ومما يبين تكوينية المنهج النبوي في التربية، أنه صلى الله عليه وسلم ، كان يراعي الخصائص الذاتية لكل فرد من الصحابة، ولا يسعى إلى تربيتهم على نمط واحد، وإنما يكونهم بما يناسب مواهبهم، وشخصياتهم، على اختلافها، ولذلك كان جوابه يختلف كلما سئل : (أي الأعمال أفضل؟) مراعيا بذلك حال السائل وطبيعته، ( فيجيب مرة بقوله صلى الله عليه وسلم : أفضل الأعمال، الإيمان بالله وحده، ثم الجهاد... ) إلى آخر الحديث [8] ، ( ويجيب مرة أخرى بقوله: أفضل الأعمال، الصلاة في أول وقتها ) ، ( وكذلك: أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سرورا... ) الحديث... [9] إلخ وينظر إلى عبد الله بن عمر ، فيري فيه أهلية لصلاة الليل، فيقول فيه: ( نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل ) [10] ويسلم خالد بن الوليد ، وهو قائد عسكري بطبعه، فيزكي فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، هـذه الموهبة، ويوجهها إلى خدمة الحق، ولا يميل به إلى الإكثار من [ ص: 77 ] صلاة الليل، أو رواية الحديث، ولكن ( يقول فيه: نعم عبد الله، خالد بن الوليد : سيف من سيوف الله ) [11] .

( ويقول في أبي عبيدة بن الجراح : إن لكل أمة أمينا، وأن أميننا - أيتها الأمة - أبو عبيدة بن الجراح ) [12] .

( ويدعو صلى الله عليه وسلم لابن عباس قائلا: اللهم علمه الحكمة، اللهم علمه الكتاب ) [13] ، ( وقال صلى الله عليه وسلم : أرحم أمتي بأمتي، أبو بكر، وأشدهم في أمر الله، عمر، وأصدقهم حياء، عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم، زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام، معاذ بن جبل، ولكل أمة أمين، وأمين هـذه الأمة، أبو عبيدة بن الجراح ) [14] ، إلى غير ذلك من الأحاديث، التي تدل على وعي النبي صلى الله عليه وسلم ، بمواهب أصحابه، وخصائصهم الذاتية، وعلى تربيته صلى الله عليه وسلم لهم، بناء على ذلك، مما يؤكد بعده عليه السلام عن التربية النمطية، ذات النموذج الجاهز، والمتكرر، عن نسخة واحدة، هـي الوسيط، لا غير.. وبذلك يكون الرسول المربي صلى الله عليه وسلم مكونا، لا ملقنا، ومربيا، لا وسيطا. [ ص: 78 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية