إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما
الكلام متصل بعضه ببعض في الأحكام المتعلقة بالنساء ، وقد كان منها في أوائل السورة حكم نكاح اليتامى ، وعدد ما يحل من النساء بشرطه . وفي الآية التي قبل هاتين الآيتين ذكر استبدال زوج مكان زوج بأن يطلق هذه وينكح تلك ، فلا غرو أن يصل ذلك ببيان ما يحرم نكاحه منهن ، وقد بين ما يجب من المعروف في معاشرتهن ، وقال البقاعي في نظم الدرر : لما كرر الإذن في نكاحهن ، وما تضمنه منطوقا ، ومفهوما ، وكان قد تقدم الإذن في نكاح ما طاب من النساء ، وكان الطيب شرعا يحمل على الحل مست الحاجة إلى ما يحل منهن لذلك وما يحرم فقال : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء .
أقول : قدم هذا النكاح على غيره ، وجعله في آية خاصة ، ولم يسرده مع سائر المحرمات في الآية الأخرى ; لأنه على قبحه كان فاشيا في الجاهلية ، ولذاك ذمه بمثل ما ذم به الزنا [ ص: 380 ] للتنفير عنه كما ترى في آخر الآية . أخرج ابن سعد ، عن ، قال : كان الرجل إذا توفي عن امرأته كان ابنه أحق بها أن ينكحها إن شاء إن لم تكن أمه ، أو ينكحها من شاء ، فلما مات محمد بن كعب أبو قيس بن الأسلت قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته أم عبيد بنت ضمرة ، ولم ينفق عليها ، ولم يورثها من المال شيئا ، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له فقال : ارجعي لعل الله ينزل فيك شيئا فنزلت ولا تنكحوا الآية . ونزلت أيضا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها أي نزلت هذه الآيات عقب وقوع هذه الحادثة وأمثالها ، وتقدم ذكر القصة بلفظ آخر عند تفسير الآية الأولى ، وما هي ببعيد . وقال الواحدي ، وغيره ممن تكلم في أسباب النزول : إنها نزلت في محصن المذكور ، وفي الأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه ، وفي تزوج امرأة أبيه صفوان بن أمية بن خلف فاختة بنت الأسود بن المطلب ، وفي منظور بن ريان تزوج امرأة أبيه مليكة بنت خارجة .
والنكاح هو الزواج ، وقد تقدم في تفسير : فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ 2 : 230 ] أن النكاح له إطلاقان : يطلق على عقد الزوجية ، وعلى ما وراء العقد ، وما يقصد به ، أي مجموعهما ، وهو المراد هناك . وقد صرح الفقهاء بأنه يطلق على العقد ، وعلى الوطء ، واختلفوا في أي الإطلاقين هو الحقيقي ، وأيهما المجازي . والظاهر أنه لا يطلق شرعا على الوطء من غير عقد ، وإنما كمال معناه الشرعي العقد ، وما وراءه كما قلنا ، وقد يطلق على العقد وحده .
قال الأستاذ الإمام : وهو الذي تمكن معرفته ، وتبنى عليه الأحكام في الغالب ، بخلاف ما قاله الحنفية من أن حقيقته الوطء ، ويؤيد ما اختاره الأستاذ تفسير ( رضي الله عنه ) النكاح هنا بالعقد . فقد روى ابن عباس ، ابن جرير والبيهقي عنه أنه قال : " كل امرأة تزوجها أبوك دخل بها ، أو لم يدخل بها فهي عليك حرام " ، وروي ذلك عن الحسن ، ، والمراد من الآباء ما يشمل بالإجماع . وعطاء بن أبي رباح
وقوله - تعالى - : إلا ما قد سلف معناه لكن ما سلف من ذلك لا تؤاخذون عليه ، وقال بعضهم معناه : إلا ما قد مات منهن ، ورووه عن ، وقالوا : إن المراد به المبالغة في تأكيد التحريم ، وقطع عرق هذه الفاحشة وسد باب إباحتها سدا محكما ، وهو ليس بظاهر عندي إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا أي إن أبي بن كعب كان ، ولا يزال في الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها ، وأيدتها الشريعة التي هداهم إليها أمرا فاحشا شديد القبح عند من يعقل ومقتا أي ممقوتا مقتا شديدا عند ذوي الطباع السليمة حتى كأنه نفس المقت ، وهو البغض الشديد أو بغض الاحتقار ، والاشمئزاز ، وكانوا يسمون هذا النكاح في الجاهلية نكاح المقت ، وسمي الولد منه مقتيا ، ومقيتا ، أي مبغوضا محتقرا وساء سبيلا أي بئس طريقا طريق ذلك النكاح الذي اعتادته الجاهلية ، وبئس من يسلكه . نكاح حلائل الآباء
[ ص: 381 ] وقال الأستاذ الإمام : إن هذا النكاح ، وإن كان سبيلا مسلوكا إلا أنه سبيل سيئ ، ولم يزده السير فيه إلا قبحا ، ومقتا ، وقال الإمام الرازي : " مراتب القبح ثلاث : القبح العقلي ، والقبح الشرعي ، والقبح العادي ، وقد وصف الله - سبحانه - هذا النكاح بكل ذلك ، فقوله - سبحانه - : فاحشة إشارة إلى مرتبة قبحه العقلي ، وقوله - تعالى - : ومقتا إشارة إلى مرتبة قبحه الشرعي ، وقوله : وساء سبيلا إشارة إلى مرتبة قبحه العادي " .
أقول : والظاهر أن الأخير يراد به القبح العادي ; أي إنه عادة ، ولكنها قبيحة وما قبله يراد به القبح الطبعي ، أي أن الطباع تمقت هذا لاستقباحها إياه ، والأول كما قال الرازي يراد به القبح العقلي كما أشرنا إلى ذلك عند تفسير العبارات ، وفاته هو ذكر القبح الطبعي ، وأما ما في ذلك من القبح الشرعي فإنما يعرف بورود الوحي بتحريمه فهو مرتبة رابعة . فالله - تعالى - قد حرم حلائل الآباء ، وعلله بما فيه القبائح الثلاث .
هذا ما جرى عليه الجمهور في تفسير الآية ، وقال بعضهم : إن ما في قوله : ما نكح آباؤكم من النساء مصدرية ، أي لا تنكحوا النساء أيها المؤمنون كما كان ينكح آباؤكم في الجاهلية بتلك الطرق الفاسدة كالنكاح بدون شهود . : وهو المبادلة في الزواج بأن يزوج الرجل من له الولاية عليها رجلا آخر على أن يزوجه هذا موليته ، ولا مهر لواحدة منهما بل كل منهما تكون كمهر للأخرى . ونكاح الشغار
وعبارة بعد نقل الروايات في تفسير الجمهور للآية ، ونقل قول ابن جرير ابن زيد أن المراد بذلك - الزنا - هذا نصها قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب على ما قاله أهل التأويل في تأويله أن يكون معناه : " إلخ . ولا تنكحوا من النساء نكاح آبائكم إلا ما قد سلف منكم فمضى في الجاهلية فإنه كان فاحشة
ثم قال : فإن قال قائل : وكيف يكون هذا القول موافقا قول من ذكرت قوله من أهل التأويل ، وقد علمت أن الذين ذكرت قولهم إنما قالوا نزلت هذه الآية في النهي عن نكاح حلائل الآباء ، وأنت تذكر أنهم إنما نهوا أن ينكحوا نكاحهم ؟ قيل له : وإنما قلنا : إن ذلك هو التأويل الموافق لظاهر التنزيل إذ كانت " ما " في كلام العرب لغير بني آدم ، وأنه لو كان المقصود بذلك النهي - عن حلائل الآباء دون سائر ما كان من مناكح آبائهم حراما ابتداء مثله في الإسلام بنهي الله - جل ثناؤه - لقيل : ولا تنكحوا من نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ; لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب ، إذ كان " من " لبني آدم ، و " ما " لغيرهم ، ولا تقل - أي حينئذ - ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء فإنه يدخل في ما ما كان من مناكح آبائهم التي كانوا يتناكحونها في جاهليتهم . فحرم عليهم في الإسلام [ ص: 382 ] بهذه الآية ما كان أهل الجاهلية يتناكحونه في شركهم . ومعنى إلا ما قد سلف إلا ما قد مضى إلى آخر ما قال .