بعد كتابة ما تقدم رأيت في كراسة لبعض تلاميذ الأستاذ الإمام كلاما نقله من درسه في والله عليم حليم هذا مثاله بتصرف في المعنى ، واختلاف في الأسلوب : هذا تحريض على أخذ وصية الله - تعالى - وأحكامه بقوة ، وتنبيه إلى أنه - تعالى - فرضها وهو يعلم ما فيها من الخير ، والمصلحة لنا " ، وهو بكل شيء عليم ، وإذا كنا نعلم أنه - تعالى شأنه - أعلم منا بمصالحنا ، ومنافعنا فما علينا إلا أن نذعن لوصاياه ، وفرائضه ، ونعمل بما ينزله علينا من هدايته ، وكما [ ص: 349 ] يشير اسم " العليم " هنا إلى وضع تلك الأحكام على قواعد العلم بمصلحة العباد ومنفعتهم يشير أيضا إلى وجوب مراقبة الوارثين ، والقوام على التركات لله - تعالى - في علمهم بتلك الأحكام ; لأنه عليم لا يخفى عليه حال من يلتزم الحق في ذلك ، ويقف عند حدود الله - عز وجل - ، وحال من يتعدى تلك الحدود بأكل شيء من الوصايا ، أو الدين ، أو حق صغار الوارثين ، أو النساء الذي فرضه الله لهم كما كانت تفعل الجاهلية ; ولذلك قال في الآية السابقة : تفسير : إن الله كان عليما حكيما فللتذكير بعلمه - تعالى - هنا فائدتان : فائدة تتعلق بحكمة التشريع ، وفائدة تتعلق بكيفية التنفيذ .
وقد يخطر في البال أن المناسب الظاهر في هذه الآية أن يقرن وصف العلم بوصف الحكمة كالآية الأخرى ، فيقال : " والله عليم حكيم " ، فما هي النكتة في إيثار الوصف بالحلم على الوصف بالحكمة ، والمقام مقام تشريع ، وحث على اتباع الشريعة ; لا مقام حث على التوبة فيؤتى فيه بالحلم الذي يناسب العفو والرحمة ؟ والجواب عن ذلك : أن التذكير بعلم الله - تعالى - لما كان متضمنا لإنذار من يتعدى حدوده تعالى فيما تقدم من الوصية ، والدين ، والفرائض ، ووعيده ، وكان تحقق الإنذار ، والوعيد بعقاب معتدي الحدود وهاضم الحقوق قد يتأخر عن الذنب ، وكان ذلك مدعاة غرور الغافل ، ذكرنا - تعالى - هنا بحلمه لنعلم أن تأخر نزول العقاب لا ينافي ذلك الوعيد والإنذار ، ولا يصح أن يكون سببا للجراءة ، والاغترار ، فإن الحليم هو الذي لا تستفزه المعصية إلى التعجيل بالعقوبة ، وليس في الحلم شيء من معنى العفو والرحمة ، فكأنه يقول : لا يغرن الطامع في الاعتداء ، وأكل الحقوق تمتع بعض المعتدين بما أكلوا بالباطل ، فينسى علم الله - تعالى - بحقيقة حالهم ، ووعيده لأمثالهم ، فيظن أنهم بمفازة من العذاب فيتجرأ على مثل ما تجرءوا عليه من الاعتداء ، ولا يغرن المعتدي نفسه تأخر نزول الوعيد به ، فيتمادى في المعصية بدلا من المبادرة إلى التوبة ، لا يغرن هذا ولا ذاك تأخير العقوبة ، فإنه إمهال يقتضيه الحلم ، لا إهمال من العجز أو عدم العلم ، وفائدة المذنب من حلم الحليم القادر أنه يترك له وقتا للتوبة والإنابة بالتأمل في بشاعة الذنب وسوء عاقبته ، فإذا أصر المذنب على ذنبه ، ولم يبق للحلم فائدة في إصلاح شأنه ، يوشك أن يكون عقاب الحليم له أشد من عقاب السفيه على البادرة عند حدوثها ، ومن الأمثال في ذلك : " اتقوا غيظ الحليم " ذلك بأن غيظه لا يكون إلا عند آخر درجات الحلم إذا لم تبق الذنوب منه شيئا ، وعند ذلك يكون انتقامه عظيما . نعم إن حلم الله - تعالى - لا يزول ، ولكنه يعامل به كل أحد بقدر معلوم : وكل شيء عنده بمقدار [ 13 : 8 ] فلا ينبغي للعاقل أن يغتر بحلمه - تعالى - ، كما أنه لا ينبغي له أن يغتر بكرمه ياأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك [ 82 : 6 - 9 ] .