nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=166nindex.php?page=treesubj&link=28974_30452_30455_28782_28783وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله قال الأستاذ الإمام : أي لا عجزا في القدرة ولا قهرا للإرادة ، وهذا صريح في أن قدرته لا يمنعها وجود الرسول فيهم . أقول أي وكل ما أصابكم أيها المؤمنون يوم التقى جمعكم بجمع المشركين في
أحد فهو بإذن الله : أي إرادته الأزلية وقضائه السابق بأن تكون السنن العامة في الأسباب والمسببات مطردة ، فكل عسكر يخطئ الرأي ويعصي القائد ويخلي بين ظهره يصاب بمثل ما أصبتم أو بما هو أشد منه . هذا هو معنى ما يروى عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما - من تفسير الإذن هنا بقضاء الله وحكمه ، وفيه تسلية للمؤمنين كما قيل وعبرة ، وعلم عال يجلي لهم قوله السابق في هذا السياق :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=137قد خلت من قبلكم سنن [ 3 : 137 ] وذهب بعض المفسرين إلى أن الإذن هنا عبارة عن التخلية وعدم المعارضة والمنع على سبيل المجاز ، أي إنه - تعالى - لم يمنع المشركين من الإيقاع بالمؤمنين بعناية خاصة منه لأنهم لم يستحقوا تلك العناية منه - سبحانه - ، وقد فشلوا في الأمر وعصوا الرسول ، فقد وقع ذلك لأنه - تعالى - أذن به وأراده
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=166وليعلم المؤمنين أي حالهم من قوة الإيمان وضعفه والاستفادة من المصائب حتى لا يعودوا إلى أسبابها ، والعلم بسنن الله عندما يظهر فيهم حكمها في الشدة والبأس ، أي ليظهر علمه بذلك ويترتب عليه مقتضاه ، وقد تقدم الكلام على التعليل بالعلم فارجع إلى تفسير قوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=140وليعلم الله الذين آمنوا من هذا السياق فما هو ببعيد ، فالتعليل الأول المأخوذ من قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=166فبإذن الله لبيان السبب ، والتعليل الثاني لبيان الحكمة والفائدة في ذلك ، وعطف عليه قوله - عز وجل - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=167nindex.php?page=treesubj&link=28974_28842_30797وليعلم الذين نافقوا ليبين في هذه الآية وما بعدها حال المنافقين مع المؤمنين ، كما بين من قبل حال الكافرين معهم ، والذين نافقوا هم الذين أظهروا الإيمان وتبطنوا الكفر ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري : إنه مأخوذ من النفق ، وهو السرب فهم يتسترون بالإسلام كما يتستر الرجل في السرب ، وقال غيره : إنه مشتق من النافقاء وهو جحر اليربوع أو أحد بابيه ، قال
أبو عبيدة : إنه يجعل لجحره بابين : أحدهما القاصعاء والآخر النافقاء فإذا طلب من أحدهما خرج من الآخر وهكذا شأن المنافق يظهر للمؤمنين من باب الإيمان وللكافرين من باب الكفر ، فإذا أصابته مشقة من أحدهما لجأ إلى الآخر ، وقال غيره : إن النافقاء جحر اليربوع يحفره في الأرض ويرققه من أعلاه فإذا رابه شيء فخاف على نفسه دفع التراب برأسه وخرج ، فقيل للمنافق منافق لأنه يضمر الكفر في باطنه ، فإذا فتشه
[ ص: 187 ] رمى عنه ذلك الكفر وتمسك بالإسلام . كذا وجهه
الرازي ، ولك أن تقول لأنه يلجأ للإسلام ويحتمي به ، فإذا رابه منه شيء خرج منه إلى الكفر . وقول
أبي عبيدة أظهر هذه الأقوال .
وسيأتي من أوصافهم ما يظهر به وجه التسمية كقوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=141الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين [ 4 : 141 ] .
والمعنى وليعلم حال الذين نافقوا ، أي وقع منهم النفاق في هذه الوقعة ، ولم يقل المنافقين كما قال المؤمنين ; لأن النفاق لم يكن صفة ثابتة لهم كثبوت إيمان المؤمنين ، فإن منهم من تاب بعد ذلك وصدق في إيمانه ، أي ليظهر علمه بذلك فيترتب عليه مقتضاه من العبرة لسوء عاقبة المنافقين حتى فيما ظنوه حزما وتوقيا للمكروه واحتياطا في الأمر ، كالعبرة بحسن عاقبة الصادقين حتى فيما ظنوه حزما وتوقيا للمكروه واحتياطا في الأمر ، كالعبرة بحسن عاقبة الصادقين حتى فيما ظنوه شرا وسوءا وكرهوا حصوله ، أما قوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=167وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا فمعناه أن هؤلاء الذين نافقوا قد دعوا إلى القتال على أنه في سبيل الله ، أي دفاعا عن الحق والدين وأهله ابتغاء مرضاة الله وإقامة دينه لا للحمية والهوى ، ولا ابتغاء الكسب والغنيمة ، أو على أنه دفاع عن أنفسهم وأهلهم ووطنهم فراوغوا وحاولوا ، وقعدوا وتكاسلوا
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=167قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم أي لو نعلم أنكم تلقون قتالا في خروجكم لاتبعناكم ولكننا نرى أن الأمر ينتهي بغير قتال ، نزل ذلك في
عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه الذين خرجوا من
المدينة في جملة الألف الذين خرج بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم رجعوا من الطريق وهم ثلاثمائة ليخذلوا المسلمين ويوقعوا فيهم الفشل ، وقد تقدم ذكر ذلك في مجمل القصة عند الشروع في تفسير الآيات الواردة فيها ( راجع ص80 من الجزء الرابع ط الهيئة المصرية للكتاب ) قال - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=167هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان أي أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان يوم قالوا ذلك القول لظهور صفته فيهم وانطباق آيته عليهم . فإن القعود عن الجهاد في سبيل الله والدفاع عن الوطن والأمة عند هجوم الأعداء من الفرائض التي لا يتعمد المؤمن تركها ، كما يعلم من الآيات الكثيرة في هذا السياق وغيره ، ومنها ما هو صريح في جعله من الصفات التي حصر الإيمان في المتصفين بها كقوله - عز وجل - :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=15إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون [ 49 : 15 ] قال الأستاذ الإمام : ليس قوله : يومئذ للاحتراس بل لرفع شأن هذا اليوم الذي حصل فيه التمييز بين الفريقين ، وقال إنهم أقرب إلى الكفر ولم يقل إنهم كفار من علمه بحالهم تأديبا لهم ومنعا للتهجم على التكفير بالعلامات والقرائن . أقول : يعني إن هذا الذي صدر منهم وإن كان من شأنه ألا يصدر إلا من الكافرين لا يعد - بحد ذاته - كفرا صريحا في حكم الظاهر ، لاحتمال العذر والتأويل ،
[ ص: 188 ] ولو سجل عليهم به ظاهرا لوجب أن يعاملوا معاملة الكفار مع أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعاملهم بعد ذلك معاملة المؤمنين حتى إنه صلى على جنازة رئيسهم
عبد الله بن أبي بعد بضع سنين من وقعة
أحد ، وحينئذ فضحهم الله - تعالى - في سورة التوبة بعد ما كان من ظهور كفرهم ونفاقهم في غزوة تبوك وأنزل عليه :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=84ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله [ 9 : 84 ] فحاصل معنى عبارة الأستاذ الإمام أنه - تعالى - كان يعلم أنهم يبطنون الكفر ، وأن امتناعهم عن الجهاد عمل من أعمال الكفر ، ولكنه لم يصرح به في الآية بل صرح بما يومئ إليه تأديبا لهم عسى أن يتوب منهم من لم يتمكن الكفر في قلبه ، ومنعا للناس من الهجوم على التكفير . فليعتبر بهذا متفقهة زماننا الذين يسارعون في تكفير من يخالف شيئا من تقاليدهم وعاداتهم وإن كان من أهل البصيرة في دينه وإيمانه والتقوى في عمله ، ولم يكونوا على شيء من ذلك .
وقوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=167nindex.php?page=treesubj&link=28974_30563_19240يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم جملة مستأنفة مبينة لحالهم في مثل قولهم هذا ، أي أن الكذب دأبهم وعادتهم يصدر عنهم على الدوام والاستمرار ليستروا بذلك ما يضمرون ، ويؤيدوا به ما يظهرون ، وهل يكون نفاق بغير كذب ؟ وفي تقيد القول بالأفواه توضيح لنفاقهم بمخالفة ظاهرهم لباطنهم وفي التنزيل آيات أخرى في بيان حالهم هذه قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=167والله أعلم بما يكتمون من الكفر والكيد للمسلمين وتربص الدوائر بهم ، فهو يبين في كل حين من مخبآت سرائرهم ما تقتضيه الحال ، وتقوم به المصلحة ، ثم هو الذي يعاقبهم به في الدنيا والآخرة .
ومن مباحث اللفظ في الآية أن قوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=167وقيل لهم تعالوا قاتلوا فيه وجهان : أحدهما أنه عطف على نافقوا وهو الظاهر المتبادر والثاني أنه استئناف ، وقوله قبله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=167وليعلم الذين نافقوا قد تم به الكلام السابق ، فالواو في قوله : وقيل لهم هي التي يسمونها واو الاستئناف على هذا القول ، وقد قال الأستاذ الإمام في هذه الواو ما حاصله : وقد خلط بعضهم في الكلام عن هذه الواو لعدم فهم المراد منها ، وليس هو بمعنى الاستئناف المشهور ، وإنما تأتي لوصل كلام بكلام آخر مباين للأول تمام المباينة من جهة ذاته ، ومرتبط به من جهة السياق والغرض ، ففي مثل هذه الحال إذا فصل الثاني من الأول يكون في الفصل البحت وحشة على السمع وإيهام للذهن أن الغرض الذي سيق له الكلام قد انتهى ، فيجيء المتكلم بالواو ليستمر الأنس بالكلام في الغرض الواحد ويظل الذهن منتظرا لغاية الفائدة والغرض منه ، فكأن المتكلم عند نطقه بالجملة المستأنفة بالواو للانتقال من جزء من كلامه قد تم إلى جزء آخر يراد به مثل ما يراد مما قبله يقول : هذا جزء من الكلام يثبت غرضي ويبين مرادي وثم جزء آخر منه وهو كذا . وهذا الشرح
[ ص: 189 ] مبني على كون الجملة المستأنفة لا اشتراك بينها وبين ما قبلها بوجه ما وإنما يقرنها السياق والغرض ، وفيها رأي آخر وهو أنها عطف على معنى خفي فيما قبلها غير مذكور ولا معين وإنما ينتزع من الكلام انتزاعا ، فلما كان كذلك لم يقولوا إن الواو وفيها عاطفة إذ لا معطوف عليه في الكلام وقالوا للاستئناف مراعاة لصورة اللفظ .
ومنها أن اللام في قوله للكفر و للإيمان متعلقة بـ أقرب على أنها بمعنى " إلى " فإن المستعمل في صلة القرب حرفا " إلى " و " من " يقال قرب منه وقرب إليه وقال بعضهم : إنه يتعدى باللام أيضا .
ثم ذكر عن المنافقين قولا آخر قالوه بعد القتال - وإنما كان القول السابق قبل القتال اعتذارا عن القعود والتخلف - فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=168nindex.php?page=treesubj&link=28974_30563الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا أي هم الذين قالوا لإخوانهم ، أو هو بدل من قوله الذين نافقوا أو نعت له . أي قالوا لأجل إخوانهم الذين قتلوا في
أحد وفي شأنهم . والحال أنهم هم قد قعدوا عن القتال : لو أطاعونا في القعود عن القتال فلم يخرجوا كما أننا لم نخرج لما قتلوا كما أننا نحن لم نقتل إذ لم نخرج . قال الأستاذ الإمام : هذا وصف آخر من أوصاف المنافقين جاء في سياق التقريع المتقدم . وقدم القول فيه على القعود عن القتال لأنه أقبح منه ; فإن القعود ربما كان لعذر أو التمس الناس له عذرا ، واللوم فيه على فاعله وحده ; لأن إثمه لا يتعداه إلى غيره ، وأما هذا القول الخبيث فإنه أدل على فساد السريرة وضعف العقل والدين ، وضرره يتعدى لما فيه من تثبيط همم المجاهدين ، أقول : ويدل على إصرارهم ما اجترموه من التثبيط والنهي حين انفصل
ابن أبي بأصحابه من العسكر مؤيدين ذلك بالاحتجاج على أنهم فعلوا الصواب وقد دحض الله - تعالى - حجتهم بقوله لنبيه :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=168قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين قال الأستاذ الإمام : أي إن هذا القول في حكمه الجازم يتضمن أن علمهم قد أحاط بأسباب الموت في هذه الوقعة ، وإذا جاز هذا فيها جاز في غيرها ، وحينئذ يمكنهم درء الموت أي دفعه عن أنفسهم ، ولذلك طالبهم به وجعله حجة عليهم . وقد يقال : إن فرقا بين التوقي من القتل بالبعد عن أسبابه وبين دفع الموت بالمرة . فالموت حتم عند انتهاء الأجل المحدود وإن طال ، والقتل ليس كذلك . فكيف احتج عليهم بطلب درء الموت عن أنفسهم ؟ قال : وهذا اعتراض يجيء من وقوف النظر ، فكل يعلم - ولا سيما من حارب - أنه ما كل من حارب يقتل ، فقد عرف بالتجربة أن كثيرين يصابون بالرصاص في أثناء القتال ولا يموتون ، وأن كثيرين يخرجون من المعمعة سالمين ولا يلبثون بعدها أن يموتوا حتف أنوفهم كما يموت كثير من القاعدين عن القتال . فما كل مقاتل يموت ، ولا كل قاعد يسلم . وإذا لم يكن أحد الأمرين حتما سقط قولهم وظهر بطلانه . وأقول : إنه ذكر
[ ص: 190 ] في المسألة كلاما آخر لم أكتبه في وقته ولم أفرغ له بعده حتى نسيته . وكل من سمع كلام من لاقوا الحروب يعجب من كثرة الوقائع التي يسلم فيها المخاطرون ويهلك الحذرون .
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=166nindex.php?page=treesubj&link=28974_30452_30455_28782_28783وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : أَيْ لَا عَجْزًا فِي الْقُدْرَةِ وَلَا قَهْرًا لِلْإِرَادَةِ ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ قُدْرَتَهُ لَا يَمْنَعُهَا وُجُودُ الرَّسُولِ فِيهِمْ . أَقُولُ أَيْ وَكُلُّ مَا أَصَابَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْتَقَى جَمْعُكُمْ بِجَمْعِ الْمُشْرِكِينَ فِي
أُحُدٍ فَهُوَ بِإِذْنِ اللَّهِ : أَيْ إِرَادَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ وَقَضَائِهِ السَّابِقِ بِأَنْ تَكُونَ السُّنَنُ الْعَامَّةُ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ مُطَّرِدَةً ، فَكُلُّ عَسْكَرٍ يُخْطِئُ الرَّأْيَ وَيَعْصِي الْقَائِدَ وَيَخَلِّي بَيْنَ ظَهْرِهِ يُصَابُ بِمِثْلِ مَا أُصِبْتُمْ أَوْ بِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ . هَذَا هُوَ مَعْنَى مَا يُرْوَى عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ تَفْسِيرِ الْإِذْنِ هُنَا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ ، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا قِيلَ وَعِبْرَةٌ ، وَعِلْمٌ عَالٍ يُجَلِّي لَهُمْ قَوْلَهُ السَّابِقَ فِي هَذَا السِّيَاقِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=137قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [ 3 : 137 ] وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْإِذْنَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ التَّخْلِيَةِ وَعَدَمِ الْمُعَارَضَةِ وَالْمَنْعِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ ، أَيْ إِنَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يَمْنَعِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْإِيقَاعِ بِالْمُؤْمِنِينَ بِعِنَايَةٍ خَاصَّةٍ مِنْهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوا تِلْكَ الْعِنَايَةَ مِنْهُ - سُبْحَانَهُ - ، وَقَدْ فَشِلُوا فِي الْأَمْرِ وَعَصَوُا الرَّسُولَ ، فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - أَذِنَ بِهِ وَأَرَادَهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=166وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ حَالَهُمْ مِنْ قُوَّةِ الْإِيمَانِ وَضَعْفِهِ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنَ الْمَصَائِبِ حَتَّى لَا يَعُودُوا إِلَى أَسْبَابِهَا ، وَالْعِلْمُ بِسُنَنِ اللَّهِ عِنْدَمَا يَظْهَرُ فِيهِمْ حُكْمُهَا فِي الشِّدَّةِ وَالْبَأْسِ ، أَيْ لِيَظْهَرَ عِلْمُهُ بِذَلِكَ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْعِلْمِ فَارْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=140وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ ، فَالتَّعْلِيلُ الْأَوَّلُ الْمَأْخُوذُ مِنْ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=166فَبِإِذْنِ اللَّهِ لِبَيَانِ السَّبَبِ ، وَالتَّعْلِيلُ الثَّانِي لِبَيَانِ الْحِكْمَةِ وَالْفَائِدَةِ فِي ذَلِكَ ، وَعُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=167nindex.php?page=treesubj&link=28974_28842_30797وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا لِيُبَيِّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا حَالَ الْمُنَافِقِينَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ، كَمَا بَيَّنَ مِنْ قَبْلُ حَالَ الْكَافِرِينَ مَعَهُمْ ، وَالَّذِينَ نَافَقُوا هُمُ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَتَبَطَّنُوا الْكُفْرَ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّفَقِ ، وَهُوَ السِّرْبُ فَهُمْ يَتَسَتَّرُونَ بِالْإِسْلَامِ كَمَا يَتَسَتَّرُ الرَّجُلُ فِي السِّرْبِ ، وَقَالَ غَيْرُهُ : إِنَّهُ مُشْتَقٌ مِنَ النَّافِقَاءِ وَهُوَ جُحْرُ الْيَرْبُوعِ أَوْ أَحَدُ بَابَيْهِ ، قَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ : إِنَّهُ يَجْعَلُ لِجُحْرِهِ بَابَيْنِ : أَحَدُهُمَا الْقَاصِعَاءُ وَالْآخُرُ النَّافِقَاءُ فَإِذَا طُلِبَ مِنْ أَحَدِهِمَا خَرَجَ مِنَ الْآخَرِ وَهَكَذَا شَأْنُ الْمُنَافِقِ يَظْهَرُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَابِ الْإِيمَانِ وَلِلْكَافِرِينَ مِنْ بَابِ الْكُفْرِ ، فَإِذَا أَصَابَتْهُ مَشَقَّةٌ مِنْ أَحَدِهِمَا لَجَأَ إِلَى الْآخَرِ ، وَقَالَ غَيْرُهُ : إِنِ النَّافِقَاءَ جُحْرُ الْيَرْبُوعِ يَحْفِرُهُ فِي الْأَرْضِ وَيُرَقِّقُهُ مِنْ أَعْلَاهُ فَإِذَا رَابَهُ شَيْءٌ فَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ دَفَعَ التُّرَابَ بِرَأْسِهِ وَخَرَجَ ، فَقِيلَ لِلْمُنَافِقِ مُنَافِقٌ لِأَنَّهُ يُضْمِرُ الْكُفْرَ فِي بَاطِنِهِ ، فَإِذَا فُتِّشَهُ
[ ص: 187 ] رَمَى عَنْهُ ذَلِكَ الْكُفْرَ وَتَمَسَّكَ بِالْإِسْلَامِ . كَذَا وَجَّهَهُ
الرَّازِيُّ ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ لِأَنَّهُ يَلْجَأُ لِلْإِسْلَامِ وَيَحْتَمِيَ بِهِ ، فَإِذَا رَابَهُ مِنْهُ شَيْءٌ خَرَجَ مِنْهُ إِلَى الْكُفْرِ . وَقَوْلُ
أَبِي عُبَيْدَةَ أَظْهَرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ .
وَسَيَأْتِي مِنْ أَوْصَافِهِمْ مَا يَظْهَرُ بِهِ وَجْهُ التَّسْمِيَةِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=141الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ 4 : 141 ] .
وَالْمَعْنَى وَلِيَعْلَمَ حَالَ الَّذِينَ نَافَقُوا ، أَيْ وَقَعَ مِنْهُمُ النِّفَاقُ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ ، وَلَمْ يَقُلِ الْمُنَافِقِينَ كَمَا قَالَ الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّ النِّفَاقَ لَمْ يَكُنْ صِفَةً ثَابِتَةً لَهُمْ كَثُبُوتِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ وَصَدَقَ فِي إِيمَانِهِ ، أَيْ لِيَظْهَرَ عِلْمُهُ بِذَلِكَ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ مِنَ الْعِبْرَةِ لِسُوءِ عَاقِبَةِ الْمُنَافِقِينَ حَتَّى فِيمَا ظَنُّوهُ حَزْمًا وَتَوَقِّيًا لِلْمَكْرُوهِ وَاحْتِيَاطًا فِي الْأَمْرِ ، كَالْعِبْرَةِ بِحُسْنِ عَاقِبَةِ الصَّادِقِينَ حَتَّى فِيمَا ظَنُّوهُ حَزْمًا وَتَوَقِّيًا لِلْمَكْرُوهِ وَاحْتِيَاطًا فِي الْأَمْرِ ، كَالْعِبْرَةِ بِحُسْنِ عَاقِبَةِ الصَّادِقِينَ حَتَّى فِيمَا ظَنُّوهُ شَرًّا وَسُوءًا وَكَرِهُوا حُصُولَهُ ، أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=167وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا فَمَعْنَاهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَافَقُوا قَدْ دُعُوا إِلَى الْقِتَالِ عَلَى أَنَّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَيْ دِفَاعًا عَنِ الْحَقِّ وَالدِّينِ وَأَهْلِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ لَا لِلْحَمِيَّةِ وَالْهَوَى ، وَلَا ابْتِغَاءَ الْكَسْبِ وَالْغَنِيمَةِ ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ دِفَاعٌ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِهِمْ وَوَطَنِهِمْ فَرَاوَغُوا وَحَاوَلُوا ، وَقَعَدُوا وَتَكَاسَلُوا
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=167قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ أَيْ لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَلْقَوْنَ قِتَالًا فِي خُرُوجِكُمْ لَاتَّبَعْنَاكُمْ وَلَكِنَّنَا نَرَى أَنَّ الْأَمْرَ يَنْتَهِي بِغَيْرِ قِتَالٍ ، نَزَلَ ذَلِكَ فِي
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ
الْمَدِينَةِ فِي جُمْلَةِ الْأَلْفِ الَّذِينَ خَرَجَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ رَجَعُوا مِنَ الطَّرِيقِ وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ لِيُخَذِّلُوا الْمُسْلِمِينَ وَيُوقِعُوا فِيهِمُ الْفَشَلَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي مُجْمَلِ الْقِصَّةِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِيهَا ( رَاجِعْ ص80 مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ ط الْهَيْئَةِ الْمِصْرِيَّةِ لِلْكِتَابِ ) قَالَ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=167هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ أَيْ أَقْرَبُ إِلَى الْكُفْرِ مِنْهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ يَوْمَ قَالُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ لِظُهُورِ صِفَتِهِ فِيهِمْ وَانْطِبَاقِ آيَتِهِ عَلَيْهِمْ . فَإِنَّ الْقُعُودَ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْوَطَنِ وَالْأُمَّةِ عِنْدَ هُجُومِ الْأَعْدَاءِ مِنَ الْفَرَائِضِ الَّتِي لَا يَتَعَمَّدُ الْمُؤْمِنُ تَرْكَهَا ، كَمَا يُعْلَمُ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَغَيْرِهِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي جَعْلِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي حُصِرَ الْإِيمَانُ فِي الْمُتَّصِفِينَ بِهَا كَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=15إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [ 49 : 15 ] قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : لَيْسَ قَوْلُهُ : يَوْمَئِذٍ لِلِاحْتِرَاسِ بَلْ لِرَفْعِ شَأْنِ هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ ، وَقَالَ إِنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْكُفْرِ وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُمْ كُفَّارٌ مِنْ عِلْمِهِ بِحَالِهِمْ تَأْدِيبًا لَهُمْ وَمَنْعًا لِلتَّهَجُّمِ عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْعَلَامَاتِ وَالْقَرَائِنِ . أَقُولُ : يَعْنِي إِنَّ هَذَا الَّذِي صَدَرَ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَصْدُرَ إِلَّا مِنَ الْكَافِرِينَ لَا يُعَدُّ - بِحَدِّ ذَاتِهِ - كُفْرًا صَرِيحًا فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ ، لِاحْتِمَالِ الْعُذْرِ وَالتَّأْوِيلِ ،
[ ص: 188 ] وَلَوْ سَجَّلَ عَلَيْهِمْ بِهِ ظَاهِرًا لَوَجَبَ أَنْ يُعَامَلُوا مُعَامَلَةَ الْكُفَّارِ مَعَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُعَامِلُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى إِنَّهُ صَلَّى عَلَى جِنَازَةِ رَئِيسِهِمْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بَعْدَ بِضْعِ سِنِينَ مِنْ وَقْعَةِ
أُحُدٍ ، وَحِينَئِذٍ فَضَحَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ ظُهُورِ كُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=84وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [ 9 : 84 ] فَحَاصِلُ مَعْنَى عِبَارَةِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَنَّهُ - تَعَالَى - كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يُبْطِنُونَ الْكُفْرَ ، وَأَنَّ امْتِنَاعَهُمْ عَنِ الْجِهَادِ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْكُفْرِ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي الْآيَةِ بَلْ صَرَّحَ بِمَا يُومِئُ إِلَيْهِ تَأْدِيبًا لَهُمْ عَسَى أَنْ يَتُوبَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْكُفْرُ فِي قَلْبِهِ ، وَمَنْعًا لِلنَّاسِ مِنَ الْهُجُومِ عَلَى التَّكْفِيرِ . فَلْيَعْتَبِرْ بِهَذَا مُتَفَقِّهَةُ زَمَانِنَا الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي تَكْفِيرِ مَنْ يُخَالِفُ شَيْئًا مِنْ تَقَالِيدِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ فِي دِينِهِ وَإِيمَانِهِ وَالتَّقْوَى فِي عَمَلِهِ ، وَلَمْ يَكُونُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=167nindex.php?page=treesubj&link=28974_30563_19240يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِحَالِهِمْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِمْ هَذَا ، أَيْ أَنَّ الْكَذِبَ دَأْبُهُمْ وَعَادَتُهُمْ يَصْدُرُ عَنْهُمْ عَلَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ لِيَسْتُرُوا بِذَلِكَ مَا يُضْمِرُونَ ، وَيُؤَيِّدُوا بِهِ مَا يُظْهِرُونَ ، وَهَلْ يَكُونُ نِفَاقٌ بِغَيْرِ كَذِبٍ ؟ وَفِي تَقَيُّدِ الْقَوْلِ بِالْأَفْوَاهِ تَوْضِيحٌ لِنِفَاقِهِمْ بِمُخَالَفَةِ ظَاهِرِهِمْ لِبَاطِنِهِمْ وَفِي التَّنْزِيلِ آيَاتٌ أُخْرَى فِي بَيَانِ حَالِهِمْ هَذِهِ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=167وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ وَتَرَبُّصِ الدَّوَائِرِ بِهِمْ ، فَهُوَ يُبَيِّنُ فِي كُلِّ حِينِ مِنْ مُخَبَّآتِ سَرَائِرِهِمْ مَا تَقْتَضِيهِ الْحَالُ ، وَتَقُومُ بِهِ الْمَصْلَحَةُ ، ثُمَّ هُوَ الَّذِي يُعَاقِبُهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=167وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى نَافَقُوا وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ وَالثَّانِي أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ ، وَقَوْلُهُ قَبْلَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=167وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا قَدْ تَمَّ بِهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ ، فَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ : وَقِيلَ لَهُمْ هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا وَاوَ الِاسْتِئْنَافِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، وَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الْوَاوِ مَا حَاصِلُهُ : وَقَدْ خَلَطَ بَعْضُهُمْ فِي الْكَلَامِ عَنْ هَذِهِ الْوَاوِ لِعَدَمِ فَهْمِ الْمُرَادِ مِنْهَا ، وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ الْمَشْهُورِ ، وَإِنَّمَا تَأْتِي لِوَصْلِ كَلَامٍ بِكَلَامٍ آخَرَ مُبَايِنٍ لِلْأَوَّلِ تَمَامَ الْمُبَايَنَةِ مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ ، وَمُرْتَبِطٍ بِهِ مِنْ جِهَةِ السِّيَاقِ وَالْغَرَضِ ، فَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ إِذَا فُصِلَ الثَّانِي مِنَ الْأَوَّلِ يَكُونُ فِي الْفَصْلِ الْبَحْتِ وَحْشَةٌ عَلَى السَّمْعِ وَإِيهَامٌ لِلذِّهْنِ أَنَّ الْغَرَضَ الَّذِي سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ قَدِ انْتَهَى ، فَيَجِيءُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْوَاوِ لِيَسْتَمِرَّ الْأُنْسُ بِالْكَلَامِ فِي الْغَرَضِ الْوَاحِدِ وَيَظَلَّ الذِّهْنُ مُنْتَظِرًا لِغَايَةِ الْفَائِدَةِ وَالْغَرَضِ مِنْهُ ، فَكَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ عِنْدَ نُطْقِهِ بِالْجُمْلَةِ الْمُسْتَأْنَفَةِ بِالْوَاوِ لِلِانْتِقَالِ مِنْ جُزْءٍ مِنْ كَلَامِهِ قَدْ تَمَّ إِلَى جُزْءٍ آخَرَ يُرَادُ بِهِ مِثْلُ مَا يُرَادُ مِمَّا قَبْلَهُ يَقُولُ : هَذَا جُزْءٌ مِنَ الْكَلَامِ يُثْبِتُ غَرَضِي وَيُبَيِّنُ مُرَادِي وَثَمَّ جُزْءٌ آخَرُ مِنْهُ وَهُوَ كَذَا . وَهَذَا الشَّرْحُ
[ ص: 189 ] مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَأْنَفَةِ لَا اشْتِرَاكَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا بِوَجْهٍ مَا وَإِنَّمَا يَقْرِنُهَا السِّيَاقُ وَالْغَرَضُ ، وَفِيهَا رَأْيٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهَا عَطْفٌ عَلَى مَعْنًى خَفِيٍّ فِيمَا قَبْلَهَا غَيْرِ مَذْكُورٍ وَلَا مُعَيَّنٍ وَإِنَّمَا يُنْتَزَعُ مِنَ الْكَلَامِ انْتِزَاعًا ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقُولُوا إِنَّ الْوَاوَ وَفِيهَا عَاطِفَةٌ إِذْ لَا مَعْطُوفَ عَلَيْهِ فِي الْكَلَامِ وَقَالُوا لِلِاسْتِئْنَافِ مُرَاعَاةً لِصُورَةِ اللَّفْظِ .
وَمِنْهَا أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ لِلْكُفْرِ وَ لِلْإِيمَانِ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ أَقْرَبُ عَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى " إِلَى " فَإِنَّ الْمُسْتَعْمَلَ فِي صِلَةِ الْقُرْبِ حَرْفَا " إِلَى " وَ " مِنْ " يُقَالُ قَرُبَ مِنْهُ وَقَرُبَ إِلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّهُ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ أَيْضًا .
ثُمَّ ذَكَرَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ قَوْلًا آخَرَ قَالُوهُ بَعْدَ الْقِتَالِ - وَإِنَّمَا كَانَ الْقَوْلُ السَّابِقُ قَبْلَ الْقِتَالِ اعْتِذَارًا عَنِ الْقُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ - فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=168nindex.php?page=treesubj&link=28974_30563الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا أَيْ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ ، أَوْ هُوَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِينَ نَافَقُوا أَوْ نَعْتٌ لَهُ . أَيْ قَالُوا لِأَجْلِ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي
أُحُدٍ وَفِي شَأْنِهِمْ . وَالْحَالُ أَنَّهُمْ هُمْ قَدْ قَعَدُوا عَنِ الْقِتَالِ : لَوْ أَطَاعُونَا فِي الْقُعُودِ عَنِ الْقِتَالِ فَلَمْ يَخْرُجُوا كَمَا أَنَّنَا لَمْ نَخْرُجْ لَمَا قُتِلُوا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ لَمْ نُقْتَلْ إِذْ لَمْ نَخْرُجْ . قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : هَذَا وَصْفٌ آخَرُ مِنْ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ جَاءَ فِي سِيَاقِ التَّقْرِيعِ الْمُتَقَدِّمِ . وَقَدَّمَ الْقَوْلَ فِيهِ عَلَى الْقُعُودِ عَنِ الْقِتَالِ لِأَنَّهُ أَقْبَحُ مِنْهُ ; فَإِنَّ الْقُعُودَ رُبَّمَا كَانَ لِعُذْرٍ أَوِ الْتَمَسَ النَّاسُ لَهُ عُذْرًا ، وَاللَّوْمُ فِيهِ عَلَى فَاعِلِهِ وَحْدَهُ ; لِأَنَّ إِثْمَهُ لَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ ، وَأَمَّا هَذَا الْقَوْلُ الْخَبِيثُ فَإِنَّهُ أَدَلُّ عَلَى فَسَادِ السَّرِيرَةِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ ، وَضَرَرُهُ يَتَعَدَّى لِمَا فِيهِ مِنْ تَثْبِيطِ هِمَمِ الْمُجَاهِدِينَ ، أَقُولُ : وَيَدُلُّ عَلَى إِصْرَارِهِمْ مَا اجْتَرَمُوهُ مِنَ التَّثْبِيطِ وَالنَّهْيِ حِينَ انْفَصَلَ
ابْنُ أُبَيٍّ بِأَصْحَابِهِ مِنَ الْعَسْكَرِ مُؤَيِّدِينَ ذَلِكَ بِالِاحْتِجَاجِ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا الصَّوَابَ وَقَدْ دَحَضَ اللَّهُ - تَعَالَى - حُجَّتَهُمْ بِقَوْلِهِ لِنَبِيِّهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=168قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : أَيْ إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ فِي حُكْمِهِ الْجَازِمِ يَتَضَمَّنُ أَنَّ عِلْمَهُمْ قَدْ أَحَاطَ بِأَسْبَابِ الْمَوْتِ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ ، وَإِذَا جَازَ هَذَا فِيهَا جَازَ فِي غَيْرِهَا ، وَحِينَئِذٍ يُمْكِنُهُمْ دَرْءُ الْمَوْتِ أَيْ دَفْعُهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَلِذَلِكَ طَالَبَهُمْ بِهِ وَجَعَلَهُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ . وَقَدْ يُقَالُ : إِنَّ فَرْقًا بَيْنَ التَّوَقِّي مِنَ الْقَتْلِ بِالْبُعْدِ عَنْ أَسْبَابِهِ وَبَيْنَ دَفْعِ الْمَوْتِ بِالْمَرَّةِ . فَالْمَوْتُ حَتْمٌ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْأَجَلِ الْمَحْدُودِ وَإِنْ طَالَ ، وَالْقَتْلُ لَيْسَ كَذَلِكَ . فَكَيْفَ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِطَلَبِ دَرْءِ الْمَوْتِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ؟ قَالَ : وَهَذَا اعْتِرَاضٌ يَجِيءُ مِنْ وُقُوفِ النَّظَرِ ، فَكُلٌّ يَعْلَمُ - وَلَا سِيَّمَا مَنْ حَارَبَ - أَنَّهُ مَا كُلُّ مَنْ حَارَبَ يُقْتَلُ ، فَقَدْ عُرِفَ بِالتَّجْرِبَةِ أَنَّ كَثِيرِينَ يُصَابُونَ بِالرَّصَاصِ فِي أَثْنَاءِ الْقِتَالِ وَلَا يَمُوتُونَ ، وَأَنَّ كَثِيرِينَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْمَعْمَعَةِ سَالِمِينَ وَلَا يَلْبَثُونَ بَعْدَهَا أَنْ يَمُوتُوا حَتْفَ أُنُوفِهِمْ كَمَا يَمُوتُ كَثِيرٌ مِنَ الْقَاعِدِينَ عَنِ الْقِتَالِ . فَمَا كُلُّ مُقَاتِلٍ يَمُوتُ ، وَلَا كُلُّ قَاعِدٍ يَسْلَمُ . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ حَتْمًا سَقَطَ قَوْلُهُمْ وَظَهَرَ بُطْلَانُهُ . وَأَقُولُ : إِنَّهُ ذَكَرَ
[ ص: 190 ] فِي الْمَسْأَلَةِ كَلَامًا آخَرَ لَمْ أَكْتُبْهُ فِي وَقْتِهِ وَلَمْ أَفْرَغْ لَهُ بَعْدَهُ حَتَّى نَسِيتُهُ . وَكُلُّ مَنْ سَمِعَ كَلَامَ مَنْ لَاقَوُا الْحُرُوبَ يَعْجَبُ مِنْ كَثْرَةِ الْوَقَائِعِ الَّتِي يَسْلَمُ فِيهَا الْمُخَاطِرُونَ وَيَهْلِكُ الْحَذِرُونَ .