ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط
قال الأستاذ الإمام : إن الآيات السابقة من أول السورة كانت في الحجاج مع أهل الكتاب ، وكذا مع المشركين بالتبع والمناسبة ، وإن هذه الآيات وما بعدها إلى آخر السورة في بيان أحوال المؤمنين ومعاملة بعضهم لبعض وإرشادهم في أمرهم ، أي إن أكثر الآيات السابقة واللاحقة في ذلك .
ثم ذكر لبيان اتصال هذه الآية بما قبلها ثلاث مقدمات :
( 1 ) أنه كان بين المؤمنين وغيرهم صلات كانت مدعاة إلى الثقة بهم والإفضاء إليهم بالسر وإطلاعهم على كل أمر ، منها المحالفة والعهد ، ومنها النسب والمصاهرة ، ومنها الرضاعة .
( 2 ) إن الغرة من طبع المؤمن فإنه يبني أمره على اليسر والأمانة والصدق ولا يبحث عن العيوب ; ولذلك يظهر لغيره من العيوب وإن كان بليدا ما لا يظهر له هو وإن كان ذكيا .
( 3 ) إن المناصبين للمؤمنين من أهل الكتاب والمشركين كان همهم الأكبر إطفاء نور الدعوة وإبطال ما جاء به الإسلام ، وكان هم المؤمنين الأكبر نشر الدعوة وتأييد الحق ، فكان الهمان متباينين ، والقصدان متناقضين . ثم قال : فإذا كانت حالة الفريقين على ما ذكر [ ص: 67 ] فهي لا شك مقتضية لأن يفضي النسيب من المؤمنين إلى نسيبه من أهل الكتاب والمشركين ، والمحالف منهم لمحالفه من غيرهم بشيء مما في نفسه وإن كان من أسرار الملة التي هي موضوع التباين والخلاف بينهم ، وفي ذلك تعريض مصلحة الملة للخبال ، لذلك جعل الله - تعالى - للصلات بين المؤمنين وغيرهم حدا لا يتعدونه فقال :
ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا إلى آخر الآيات .
بطانة الرجل : وليجته وخاصته الذين يستبطنون أمره ويتولون سره ، مأخوذ من بطانة الثوب وهو الوجه الباطن منه ، كما يسمى الوجه الظاهر : ظهارة ، و من دونكم معناه من غيركم ، و يألونكم من الإلو : وهو التقصير والضعف ، و " الخبال " في الأصل الفساد الذي يلحق الحيوان فيورثه اضطرابا كالأمراض التي تؤثر في المخ فيختل إدراك المصاب بها ، أي لا يقصرون ولا ينون في إفساد أمركم ، والأصل في استعمال فعل " ألا " أن يقال فيه نحو : " لا آلو في نصحك " وسمع مثل " لا آلوك نصحا " على معنى لا أمنعك نصحا ، وهو ما يسمونه التضمين . و عنتم من العنت وهو المشقة الشديدة ، و البغضاء : شدة البغض .
أما سبب النزول : فقد أخرج وغيره عن ابن إسحاق قال : " كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من ابن عباس يهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية فأنزل الله فيهم - ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة عليهم - هذه الآية " . وأخرج أنها نزلت في المنافقين . وروى عبد بن حميد القولين عن ابن جرير وذكر ابن عباس الرازي وجها ثالثا:أنها في الكافرين والمنافقين عامة . قال : " وأما ما تمسكوا به من أن ما بعد الآية مختص بالمنافقين فهذا ثبت في أصول الفقه أن أول الآية إذا كان عاما وآخرها إذا كان خاصا لم يكن خصوص آخر الآية مانعا عموم أولها " وسيأتي عن ترجيح الأول . ابن جرير
وأما المعنى فهو نهي المؤمنين أن يتخذوا لأنفسهم بطانة من الكافرين الموصوفين بتلك الأوصاف على القول بأن قوله : لا يألونكم إلخ نعوت للبطانة هي قيود للنهي ، وكذا على القول بأنه كلام مستأنف مسوق للتعليل ، فالمراد واحد ، وهو أن النهي خاص بمن كانوا في عداوة المؤمنين على ما ذكر ، وهو أنهم لا يألونهم خبالا وإفسادا لأمرهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا . فهذا هو القيد الأول ، والثاني قوله - عز وجل - : ودوا ما عنتم أي تمنوا عنتكم ، أي وقوعكم في الضرر الشديد والمشقة . والثالث والرابع قوله : قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر أي قد ظهرت علامات بغضائهم لكم من كلامهم ، فهي لشدتها مما يعوزهم كتمانها ويعز عليهم إخفاؤها ، على أن ما تخفي صدورهم [ ص: 68 ] منها أكبر مما يفيض على ألسنتهم من الدلائل عليه ، وهذا النوع من البغضاء والعداوة مما يلقاه القائمون بكل دعوة جديدة في الإصلاح ممن يدعونهم إليه ، وما كان المسلمون الأولون يعرفون سنة البشر في ذلك ، إذا لم يكونوا على علم بطبائع الملل وقوانين الاجتماع وحوادث التاريخ حتى أعلمهم الله به ; ولذلك قال : قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون يعني بالآيات هنا : العلامات الفارقة بين من يصح أن يتخذ بطانة ومن لا يصح أن يتخذ لخيانته وسوء عاقبة مباطنته ، أي إن كنتم تدركون حقائق هذه الآيات والفصول الفارقة بين الأعداء والأولياء فاعتبروا بها ولا تتخذوا أولئك بطانة .
وأنت ترى أن هذه الصفات التي وصف بها من نهي عن اتخاذهم بطانة لو فرض أن اتصف بها من هو موافق ذلك في الدين والجنس والنسب لما جاز لك أن تتخذه بطانة لك إن كنت تعقل ، فما أعدل هذا القرآن الحكيم وما أعلى هديه وأسمى إرشاده ! لقد خفي على بعض الناس هذه التعليلات والقيود فظنوا أن النهي عن المخالف في الدين مطلقا ، ولو جاء هذا النهي مطلقا لما كان أمرا غريبا ، ونحن نعلم أن الكافرين كانوا إلبا على المؤمنين في أول ظهور الإسلام إذ نزلت هذه الآيات ولا سيما اليهود الذين نزلت فيهم على رأي المحققين ، ولكن الآيات جاءت مقيدة بتلك القيود لأن الله - تعالى - وهو منزلها - يعلم ما يعتري الأمم وأهل الملل من التغير في الموالاة والمعاداة كما وقع من هؤلاء اليهود فإنهم بعد أن كانوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا في أول ظهور الإسلام قد انقلبوا فصاروا عونا للمسلمين في بعض فتوحاتهم ( كفتح الأندلس ) وكذلك كان القبط عونا للمسلمين على الروم في مصر فكيف يجعل عالم الغيب والشهادة الحكم على هؤلاء واحدا في كل زمان ومكان أبد الأبيد ؟ ألا إن هذا مما تنبذه الدراية . ولا تروي غلته الرواية ، فإن أرجح التفسير المأثور يؤيد ما قلناه .
قال ( ) يرد على ( ابن جرير قتادة ) القائل بأن الآية في المنافقين ويؤيد رأيه الموافق لما اخترناه ما نصه : " إن الله - تعالى ذكره - إنما نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة ممن قد عرفوه بالغش للإسلام وأهله والبغضاء إما بأدلة ظاهرة دالة على أن ذلك من صفتهم ، وإما بإظهار الموصوفين بتلك العداوة والشنآن والمناصبة لهم ، فأما من لم يتأسوه - معرفة أنه الذي نهاهم الله - عز وجل - عن مخالته ومباطنته - وإما جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته إلا بعد تعريفهم إياهم إما بأعيانهم وأسمائهم ، وإما بصفات قد عرفوهم بها ، وإذا كان ذلك كذلك وكان إبداء المنافقين بألسنتهم ما في قلوبهم من بغضاء المؤمنين إلى إخوانهم الكفار - أي كما قال قتادة - غير مدرك به المؤمنون معرفة ما هم عليه مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم والتودد إليهم على ما وصفهم الله - تعالى - به ، فعرفهم المؤمنون بالصفة التي نعتهم الله بها . وأنهم هم الذين وصفهم - الله تعالى ذكره - بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون [ ص: 69 ] ممن كان لهم ذمة وعهد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من أهل الكتاب ; لأنهم لو كانوا المنافقين لكان الأمر منهم على ما بينا ، ولو كان الكفار ممن ناصب المسلمين الحرب لم يكن المؤمنون متخذين لأنفسهم بطانة من دون المؤمنين مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم ، ولكنهم الذين كانوا بين أظهر المؤمنين من أهل الكتاب أيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن كان له من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد وعقد من يهود بني إسرائيل " اهـ . فهذا شيخ المفسرين وأشهرهم يجعل هذا النهي فيمن ظهرت عداوتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين معه ممن كان لهم عهد فخانوا فيه كبني النضير الذين حاولوا قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء ائتمانه لهم لمكان العهد والمحالفة ، ويمنع أن يكون أراد به جميع الكافرين أو المنافقين ، فهذا حكم من أحكام الإسلام في المخالفين أيام كان جميع الناس حربا للمسلمين ، فهل ينكر أحد له مسكة من الإنصاف أنه في هذه القيود التي قيد بها يعد منتهى التساهل والتسامح مع المخالفين ، إذ لم يمنع اتخاذ البطانة إلا ممن ظهرت عداوتهم وبغضاؤهم للمسلمين ، فهم لا يقصرون في إفساد أمرهم ويتمنون لهم الشر فوق ذلك . لو كانت هذه القيود للنهي عن استعمال المخالفين في كل شيء ومشاركتهم في كل عمل لكان وجه العدل فيها زاهرا ، وطريق العذر فيها ظاهرا ، فكيف وهي قيود لاتخاذهم بطانة يستودعون الأسرار ويستعان برأيهم وعملهم على شئون الدفاع عن الملة وصون حقوقها ومقاومة أعدائها ؟
ما أشبه هذا النهي في قيوده بالنهي عن اتخاذ الكفار أنصارا وأولياء ، إذ قيد بقوله - عز وجل - : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون [ 60 : 8 ، 9 ] وقد شرحنا هذا البحث في تفسير قوله - تعالى - : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين [ 3 : 28 ] .
هذا التساهل الذي جاء به القرآن هو الذي أرشد إلى جعل رجال دواوينه من عمر بن الخطاب الروم ، وجرى الخليفتان الآخران وملوك بني أمية من بعده على ذلك إلى أن نقل الدواوين من الرومية إلى العربية . وبهذه السيرة وذلك الإرشاد عمل العباسيون وغيرهم من ملوك المسلمين في نوط أعمال الدولة عبد الملك بن مروان باليهود والنصارى والصابئين ، ومن ذلك جعل الدولة العثمانية أكثر سفرائها ووكلائها في بلاد الأجانب من النصارى . ومع هذا كله يقول متعصبو أوربا : إن الإسلام لا تساهل فيه ! ! " رمتني بدائها وانسلت " ألا إن التساهل قد خرج عند المسلمين عن حده ، حتى كتب الأستاذ الإمام في ذلك مقاله في العروة الوثقى [ ص: 70 ] صدرها بالآية التي نفسرها نوردها هنا برمتها لأنها تدخل في باب تفسير الآية والاعتبار بها على أكمل وجه وهذا نصها ( نقلا من الجزء الثاني من تاريخه ) :
" قالوا : تصان البلاد ويحرس الملك بالبروج المشيدة والقلاع المنيعة والجيوش العاملة والأهب الوافرة والأسلحة الجيدة . قلنا : نعم ، هي أحراز وآلات لا بد منها للعمل فيما يقي البلاد ، ولكنها لا تعمل بنفسها ولا تحرس بذاتها فلا صيانة بها ولا حراسة إلا أن يتناول أعمالها رجال ذوو خبرة وأولو رأي وحكمة يتعهدونها بالإصلاح زمن السلم ويستعملونها فيما قصدت له زمن الحرب ، وليس بكاف حتى يكون رجال من ذوي التدبير والحزم وأصحاب الحذق والدراية يقومون على سائر شئون المملكة ، يوطئون طرق الأمن ويبسطون بساط الراحة ويرفعون بناء الملك على قواعد العدل ويوقفون الرعية عند حدود الشريعة ، ثم يراقبون روابط المملكة مع سائر الممالك الأجنبية ليحفظوا لها المنزلة التي تليق بها بينها ، بل يحملوها على أجنحة السياسة القويمة إلى أسمى مكانة تمكن لها ، ولن يكونوا أهلا للقيام على هذه الشئون الرفيعة حتى تكون قلوبهم فائضة بمحبة البلاد طافحة بالمرحمة والشفقة على سكانها ، وحتى تكون الحمية ضاربة في نفوسهم آخذة بطباعهم ، يجدون في أنفسهم منبها على ما يجب عليهم وزاجرا عما لا يليق بهم ، وغضاضة وألما موجعا عندما يمس مصلحة المملكة ضرر ويوجس عليها من خطر ; ليتيسر لهم بهذا الإحساس وتلك الصفات أن يؤدوا أعمال وظائفهم - كما ينبغي - ويصونوها من الخلل ربما يفضي إلى فساد كبير في الملك . فهؤلاء الرجال بهذه الخلال هم المنعة الواقية والقوة الغالبة .
" يسهل على أي حاكم في أي قبيل لأن يكتب الكتائب ويجمع الجنود ويوفر العدد من كل نوع بنقد النقود وبذل النفقات ، ولكن من أين يصيب بطانة من أولئك الذين أشرنا إليهم : عقلاء رحماء أباة أصفياء تهمهم حاجات الملك كما تهمهم ضرورات حياتهم ؟ لا بد أن يتبع في هذا الأمر الخطير قانون الفطرة ، ويراعى ناموس الطبيعة ، فإن متابعة هذا الناموس تحفظ الفكر من الخطأ وتكشف له خفيات الدقائق ، وقلما يخطئ في رأيه أو يتأود في عمله من أخذ به دليلا وجعل له من هديه مرشدا . وإذا نظر العاقل في أنواع الخطأ التي وقعت في العالم الإنساني من كلية وجزئية وطلب أسبابها لا يجد لها من علة سوى الميل عن قانون الفطرة والانحراف عن سنة الله في خلقه .
من أحكام هذا الناموس الثابت أن الشفقة والمرحمة والنعرة على الملك والرعية ، إنما تكون لمن له في الأمة أصل راسخ ووشيج يشد صلته بها . هذه فطرة فطر الله الناس عليها ، إن الملتحم مع الأمة بعلاقة الجنس يراعي نسبته إليها ونسبتها إليه ، ويراها لا تخرج عن سائر نسبة الخاصة به فيدافع الضيم عن الداخلين معه في تلك النسبة دفاعه عن [ ص: 71 ] حوزته وحريمه " راجع رأيك فيما تشهده كثيرا حتى بين العامة عندما يرمي أحدهم أهل البلد الآخر أو دينه بسوء على وجه عام " كسوري " ينتقد المصريين أو مصري ينتقد السوريين " هذا إلى ما يعلمه كل واحد من الأمة أن ما تناله أمة من الفوائد يلحقه حظ منها وما يصيبها من الأرزاء يصيبه سهم منه ، خصوصا إن كان بيده هامات أمورها وفي قبضته زمام التصرف فيها ، فإن حظه " حينئذ " من المنفعة أوفر ومصيبته بالمضرة أعظم وسهمه من العار الذي يلحق الأمة أكبر ، فيكون اهتمامه بشئون الأمة التي هو منها وحرصه على سلامتها بمقدار ما يؤمله من المنفعة أو يخشاه من المضرة .
" فعلى ولي الأمر في مملكة ألا يكل شيئا من عمله إلا لأحد رجلين : إما رجل يتصل به في جنسية سالمة من الضعف والتمزيق موقرة في نفوس المنتظمين فيها محترمة في قلوبهم يحملهم توقيرها واحترامها على التغالي في وقايتها من كل شين يدنو منها ، ولم توهن روابطها اختلافات المشارب والأديان ، وإما رجل يجتمع معه في دين قامت جامعته مقام الجنسية ، بل فاقت منزلته من القلوب منزلتها كالدين الإسلامي الذي حل عند المسلمين - وإن اختلفت شعوبهم - محل كل رابطة نسبية ; فإن كلا من الجامعتين " الجنسية على النحو السابق والدينية " مبدآن للحمية على الملك ومنشآن للغيرة عليه .
" أما الأجانب الذين لا يتصلون بصاحب الملك في جنس ولا في دين تقوم رابطته مقام الجنس فمثلهم في المملكة كمثل الأجير في بناء بيت لا يهمه إلا استيفاء أجرته ، ثم لا يبالي أسلم البيت أو جرفه السيل أو دكته الزلازل ، هذا إذا صدقوا في أعمالهم يؤدون منها بمقدار ما يأخذون من الأجر ، واقفين فيها عند الرسم الظاهر ; فإن الواحد منهم لا يشرف بشرف الأمة الذي هو خادم فيها ولا يمسه شيء مما يمسها من الضعة لأنه منفصل عنها ، إذا فقد العيش فيها فارقها وارتد إلى منبته الذي ينتسب إليه ، بل هو في حال عمله وخدمته لغير جنسه لاصق بمنبته في جميع شئونه ماعدا الأجر الذي يأخذه - وهذا معلوم ببداهة العقل - فلا يجد في طبيعته ولا في خواطر قلبه ما يبعثه على الحذر الشديد مما يفسد الملك أو الحرص الزائد على ما يعلي شأنه ، بل لا يجد باعثا على الفكر فيما يقوم مصلحته من أي وجه . هذه حالهم هي لهم بمقتضى الطبيعة لو فرضنا صدقهم وبراءتهم من أغراض أخر ، فما ظنك بالأجانب لو كانوا نازحين من بلادهم فرارا من الفقر والفاقة وضربوا في أرض غيرهم طلبا للعيش من أي طريق ، وسواء عليهم في تحصيله صدقوا أو كذبوا ، وسواء وفوا أو قصروا ، وسواء راعوا الذمة أو خانوا ، أو لو كانوا مع هذا كله يخدمون مقاصد لأممهم يمهدون لها طرق الولاية والسيادة على الأقطار التي يتولون الوظائف فيها - كما هو حال الأجانب في الممالك الإسلامية لا يجدون في أنفسهم حاملا على الصدق والأمانة ولكن [ ص: 72 ] يجدون منها الباعث على الغش والخيانة - ومن تتبع التواريخ التي تمثل لنا أحوال الأمم الماضية ، وتحكي لنا عن سنة الله في خليقته وتصريفه لشئون عباده رأى أن الدول في نموها وبسطتها ما كانت مصونة إلا برجال منها يعرفون لها حقها كما تعرف لهم حقهم ، وما كان شيء من أعمالها بيد أجنبي عنها ، وأن تلك الدول ما انخفض مكانها ولا سقطت في هوة الانحطاط إلا عند دخول العنصر الأجنبي فيها وارتقاء الغرباء إلى الوظائف السامية في أعمالها ; فإن ذلك كان في كل دولة آية الخراب والدمار ، خصوصا إذا كان بين الغرباء وبين الدولة التي يتناولون أعمالها منافسات وأحقاد مزجت بها دماؤهم وعجنت بها طينتهم من أزمان طويلة .
" نعم كما يحصل الفساد في بعض الأخلاق والسجايا الطبيعية بسبب العوارض الخارجية كذلك يحصل الضعف والفتور في حمية أبناء الدين أو الأمة ، ويطرأ النقص على شفقتهم ومرحمتهم فينقص بذلك اهتمام العظماء منهم بمصالح الملك إذا كان ولي الأمر لا يقدر أعمالهم حق قدرها ، وفي هذه الحالة يقدمون منافعهم الخاصة على فرائضهم العامة فيقع الخلل في نظام الأمة ويضرب فيها الفساد ، ولكن ما يكون من ضره أخف وأقرب إلى التلافي من الضرر الذي يكون سببه استلام الأجانب لهامات الأمور في البلاد ; لأن صاحب اللحمة في الأمة وإن مرضت أخلاقه واعتلت صفاته إلا أن ما أودعته الفطرة وثبت في الجبلة لا يمكن محوه بالكلية ، فإذا أساء في عمله مرة أزعجه من نفسه صائح الوشيجة الدينية أو الجنسية فيرجع إلى الإحسان مرة أخرى ، وإن ما شد بالقلب من علائق الدين أو الجنس لا يزال يجذبه آونة بعد آونة لمراعاتها والالتفات إليها ويميله إلى المتصلين معه بتلك العلائق وإن بعدوا .
ولهذا يحق لنا أن نأسف غاية الأسف على أمراء الشرق وأخص من بينهم أمراء المسلمين حيث سلموا أمورهم ووكلوا أعمالهم من كتابة وإدارة وحماية للأجانب عنهم ، بل زادوا في موالاة الغرباء والثقة بهم حتى ولوهم خدمتهم الخاصة بهم في بطون بيوتهم ، بل كادوا يتنازلون لهم عن ملكتهم في ممالكهم بعدما رأوا كثرة المطامع فيها لهذا الزمان ، وأحسوا بالضغائن والأحقاد الموروثة من أجيال بعيدة بعد ما علمتهم التجارب أنهم إذا ائتمنوا خانوا ، وإذا عززوا أهانوا . يقابلون الإحسان بالإساءة والتوقير بالتحقير ، والنعمة بالكفران ، ويجازون على اللقمة باللطمة ، والركون إليهم بالجفوة ، والصلة بالقطيعة ، والثقة فيهم بالخدعة .
" أما آن لأمراء الشرق أن يدينوا لأحكام الله التي لا تنقض ؟ ألم يأن لهم أن يرجعوا إلى حسهم ووجدانهم ؟ ألم يأت وقت يعملون فيه بما أرشدتهم الحوادث ودلتهم عليه الرزايا [ ص: 73 ] والمصائب ؟ ألم يحن لهم أن يكفوا عن تخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم ؟ ألا أيها الأمراء العظام ما لكم وللأجانب عنكم ؟ أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم قد علمتم شأنهم ، ولم تبق ريبة في أمرهم إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها سارعوا إلى أبناء أوطانكم وإخوان دينكم وملتكم ، وأقبلوا عليهم ببعض ما تقبلون به على غيرهم تجدون فيهم خير عون وأفضل نصير ، اتبعوا سنة الله فيما ألهمكم وفطركم عليه كما فطر الناس أجمعين ، وراعوا حكمته البالغة فيما أمركم وما نهاكم كيلا تضلوا ويهوي بكم الخطل إلى أسفل سافلين ، ألم تروا ، ألم تعلموا ، ألم تحسبوا ، ألم تجربوا ؟ إلى متى إلى متى ؟ إنا لله وإنا إليه راجعون " اهـ .
هذا بيان يريك بالحجج الاجتماعية الناهضة أن الغريب عن الملة لا يتخذ بطانة للقائمين بأمر الملة ، والغريب عن الدولة لا يتخذ بطانة لرجال الدولة ، وإن لم يكن هؤلاء الغرباء متصفين بما ذكر في الآية من العدوان والبغضاء فكيف إذا كانوا كذلك ؟
بينت لنا الآية التي فسرناها بعض حال أولئك الذين نهي المؤمنون عن اتخاذ البطانة منهم مع المؤمنين ، فدونك هذه الآية التي تبين حال المؤمنين معهم .