ثم قال القفال : ( فائدة ) القتال على الدين لا ينكره منصف ; وذلك لأن أكثر الناس يحبون أديانهم بسبب الإلف والعادة ، ولا يتأملون في الدلائل التي تورد عليهم فإذا أكره [ المرء ] [ ص: 51 ] على الدخول في الدين بالتخويف بالقتل دخل فيه ، ثم لا يزال يضعف ما في قلبه من حب الدين الباطل ولا يزال يقوى في قلبه حب الدين الحق إلى أن ينتقل من الباطل إلى الحق ، ومن استحقاق العذاب الدائم إلى استحقاق الثواب الدائم " اهـ . ما أورده ( الرازي ) عن ( القفال ) وأقره .
أقول : إن هذا القول الباطل مبني على قواعد غير ثابتة ( منها ) توهم القفال والرزاي أن الأمم السابقة لم يكن عندها جهاد ديني قوي ولا إكراه على الدين ، وذلك لقلة اطلاعهما على الأديان والتاريخ ، والصواب أن أهل الكتاب كانوا أشد من المسلمين في حروبهم الدينية وورد عنهم في الإكراه على الدين ما لم يرد مثله عن المسلمين .
( ومنها ) أن الإكراه على الدين منفي من الإسلام بنص القرآن ، ولم يحارب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدا من العرب ولا من غيرهم لأجل الإكراه على الإسلام وإنما حارب دفاعا ، وكيف يحاول الإكراه والله - تعالى - يقول له : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [ 10 : 99 ] ومن أراد التفصيل في ذلك فليرجع إلى تفسير آيات القتال في البقرة وآية لا إكراه في الدين [ 2 : 256 ] .
( ومنها ) أن هذا القول يجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبارة عن الدعوة إلى الإسلام والإلزام به ، والآية السابقة ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر تقتضي أن يكون الأمر والنهي غير تلك الدعوة وغير الإلزام بقبوله بها وهو عمل لا إرشاد وتعليم . [ ومنها ] أن فريضتي الأمر والنهي غير فريضة تغيير المنكر الذي ورد في الحديث وقد تقدم بيان ذلك . [ ومنها ] أن هذا القول مخالف لقوله - تعالى - في سورة الحج في وصف المؤمنين بعد الإذن لهم بقتال المعتدين عليهم : الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر [ 22 : 41 ] فجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوصافهم بعد التمكن في الأرض ; وذلك لا يكون بالجهاد بل بعده .
فيا للعجب من هؤلاء العلماء يأخذون المسألة التقليدية قضية مسلمة ثم يحكمونها في كتاب الله - تعالى - ، ويجعلونها قاعدة لتفسيره وإن كانت مخالفة لآياته الصريحة ، ثم هم يأتون بما يدل على أن أعظم ما يمتاز به الإسلام هو اتباع الدليل ونزع قلائد التقليد ، وهم مصرون على تقلد هذه القلائد . ألم تتأمل ما قاله ( القفال ) في فائدته وأنه لا يعني بأكثر الناس الذين يحبون أديانهم بحسب الإلف والعادة إلا غير المسلمين ، يعني أن المسلمين وحدهم هم الذين يتمسكون بالدلائل فلا يقبلون في دينهم شيئا بغير دليل وبهذا كان لهم الحق عنده بإكراه غيرهم على ما هم عليه ليكون مثلهم في الخيرية . وأين المسلمون من هذه المزية اليوم وفي زمن ( القفال ) أيضا ؟ !
ثم إن السؤال الذي أورده ( الرازي ) وارتضى في جوابه ما قاله ( القفال ) مبني على [ ص: 52 ] أن قوله - تعالى - : خير أمة أخرجت للناس معناه خير أمة ظهرت لهم منذ وجدوا ، وهو أحد الأقوال التي أوردها في معنى العبارة قال : والثاني أن قوله : للناس من تمام قوله : كنتم والتقدير : كنتم للناس خير أمة ، ومنهم من قال : أخرجت صلة ، والتقدير : كنتم خير أمة للناس اهـ . وهذا الأخير أضعف الأقوال .
والأستاذ الإمام لم يتعرض لهذا السؤال ، والظاهر عندي أن تعليل الخيرية بما ذكر هنا ليس لأنه كل السبب في كون هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس ، بل لأن ما كانت به خير أمة لا يحفظ ولا يدوم إلا بإقامة هذه الأصول الثلاثة ; ولذلك اشترط على هذه الأمة أن يكون من غرضها في الدفاع عن نفسها وحفظ وجودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كأنها لولا ذلك لا تكون مستحقة للبقاء في الأرض ، وأكد الأمر بهذه الفريضة في آيات هذه السورة بما لم يعرف له نظير في كتاب من الكتب السابقة ، ولم تقم به أمة من الأمم على هذا الوجه ، فقول الرازي : " إن هذه الصفات الثلاث كانت حاصلة في سائر الأمم " غير صحيح على إطلاقه .
وقد أورد ( الرازي ) هنا سؤالا آخر وأجاب عنه فقال : " لم قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان بالله لا بد أن يكون مقدما على كل الطاعات ؟ والجواب : أن الإيمان بالله أمر مشترك فيه بين جميع الأمم المحقة ، ثم إنه - تعالى - فضل هذه الأمة على سائر الأمم المحقة فيمتنع أن يكون المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الإيمان الذي هو القدر المشترك بين الكل ، بل المؤثر في حصول هذه الزيادة هو كون هذه الأمة أقوى حالا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من سائر الأمم ، فإذن المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأما الإيمان بالله فهو شرط لتأثير هذا المؤثر في هذا الحكم ; لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يصر شيء من الطاعات مؤثرا في صفة الخيرية ، فثبت أن الموجب لهذه الخيرية هو كونهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر ، وأما إيمانهم فذاك شرط التأثير والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير ; فلهذا السبب قدم الله - تعالى - ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ذكر الإيمان " اهـ . بما فيه من تكرار .
وقال الأستاذ الإمام : أما تقديم ذكر الأمر والنهي على الإيمان فالحكمة فيه أن هذه الصفة ( الأمر والنهي ) محمودة في عرف جميع الناس : مؤمنهم وكافرهم ، يعترفون لصاحبها بالفضل ولما كان الكلام في خيرية هذه الأمة على جميع الأمم مؤمنهم وكافرهم قدم الوصف المتفق على حسنه عند المؤمنين والكافرين ، وهناك حكمة أخرى وهي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سياج الإيمان وحفاظه ( كما تقدم بيانه ) فكان تقديمه في الذكر موافقا لمعهود عند الناس في جعل سياج كل شيء مقدما عليه .
أقول : كل ذلك حسن ، والمتبادر عندي أن تقديم الأمر والنهي للتعريض بأهل الكتاب [ ص: 53 ] الذين كانوا يدعون الإيمان ولا يقدرون على ادعاء القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; لأنهم كانوا في مجموعهم لا يتناهون عن منكر فعلوه ، وادعاء ما تكذبه المشاهدة يفضح صاحبه ، فقدم ذكر الأمر والنهي لأنهم لا مجال لهم في دعوى مشاركة المؤمنين فيه ، وأخر ذكر الإيمان الذي يدعونه ليرتب عليه بيان أنه إيمان غير صحيح ; لأنه لم يأت بثمر الإيمان الصحيح ; ولذلك قال :