أما الذين قالوا فاستدلوا على ذلك بما ثبت في بعض روايات حديث بالقصاص بالقسامة سهل بن أبي حثمة في صحيح مسلم وغيره : عبد الله بن سهل الأنصاري بخيبر ، مخاطبا لأولياء المقتول : " يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته . . " الحديث . فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الثابت في صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قتل مسلم وغيره " " معناه : أنه يسلم لهم ليقتلوه بصاحبهم . وهو نص صحيح صريح في القود بالقسامة . فيدفع برمته
ومن أدلتهم على ذلك حديث ، عن أبيه ، عن جده عند عمرو بن شعيب الذي قدمناه قريبا ، وقد قدمنا عن النسائي ابن حجر أنه قال فيه : صحيح حسن . فقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه : " " صريح أيضا في القود بالقسامة . وادعاء أن معنى دفعه إليهم برمته : أي ليأخذوا منه الدية ، بعيد جدا كما ترى . أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته
[ ص: 131 ] ومن أدلتهم ما ثبت في رواية متفق عليها في حديث سهل المذكور : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأولياء المقتول : " . . " الحديث ، قالوا : فعلى أن الرواية " قاتلكم " فهي صريح في القود بالقسامة . وعلى أنها " صاحبكم " فهي محتملة لذلك احتمالا قويا . وأجيب من جهة المخالف بأن هذه الرواية لا يصح الاحتجاج بها للشك في اللفظ الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولو فرضنا أن لفظ الحديث في نفس الأمر " صاحبكم " لاحتمل أن يكون المراد به المقتول ، وأن المعنى : تستحقون ديته . والاحتمال المساوي يبطل الاستدلال كما هو معروف في الأصول ; لأن مساواة الاحتمالين يصير بها اللفظ مجملا ، والمجمل يجب التوقف عنه حتى يرد دليل مبين للمراد منه . تحلفون خمسين يمينا وتستحقون قاتلكم . أو : صاحبكم
ومن أدلتهم ما جاء في رواية عند الإمام أحمد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " " . تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينا ثم نسلمه
ومن أدلتهم ما جاء في رواية عند مسلم وغيره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " " قالوا : معنى " دم صاحبكم " قتل القاتل . أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم
وأجيب من جهة المخالف باحتمال أن المراد " بدم صاحبكم " الدية ، وهو احتمال قوي أيضا ; لأن العرب تطلق الدم على الدية ، ومنه قوله :
أكلت دما إن لم أرعك بضرة بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
ومن أدلتهم ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا محمود بن خالد وكثير بن عبيد ، قالا : حدثنا الوليد ( ح ) ، وحدثنا ، أخبرنا محمد بن الصباح بن سفيان الوليد ، عن أبي عمرو ، عن ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " عمرو بن شعيب بني نصر بن مالك ببحرة الرغاة على شط لية البحرة ، قال : القاتل والمقتول منهم ، وهذا لفظ أنه قتل بالقسامة رجلا من محمود : ببحرة ، أقامه محمود وحده على شط لية اهـ . وانقطاع سند هذا الحديث واضح في قوله : " عن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كما ترى . وقد ساق عمرو بن شعيب البيهقي في السنن الكبرى حديث أبي داود هذا ، وقال : هذا منقطع ، ثم قال : وروى أبو داود أيضا في المراسيل عن ، عن موسى بن إسماعيل حماد ، عن قتادة ، وعامر الأحول عن أبي المغيرة : الطائف " ، وهو أيضا منقطع . وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أقاد بالقسامة البيهقي في سننه عن أبي الزناد قال : أخبرني ، أن رجلا من خارجة بن زيد بن ثابت الأنصار قتل وهو سكران [ ص: 132 ] رجلا ضربه بشويق ، ولم يكن على ذلك بينة قاطعة إلا لطخ أو شبيه ذلك ، وفي الناس يومئذ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن فقهاء الناس ما لا يحصى ، وما اختلف اثنان منهم أن يحلف ولاة المقتول ويقتلوا أو يستحيوا ، فحلفوا خمسين يمينا وقتلوا ، وكانوا يخبرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالقسامة ، ويرونها للذي يأتي به من اللطخ أو الشبهة أقوى مما يأتي به خصمه ، ورأوا ذلك في الصهيبي حين قتله الحاطبيون وفي غيره . ورواه ابن وهب عن أبي الزناد وزاد فيه : أن معاوية كتب إلى : إن كان ما ذكرنا له حقا أن يحلفنا على القاتل ثم يسلمه إلينا . سعيد بن العاص
وقال البيهقي في سننه أيضا : أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو ، ثنا ، ثنا أبو العباس الأصم ، ثنا بحر بن نصر ، أخبرني عبد الله بن وهب : أن عبد الرحمن بن أبي الزناد أخبره : أن رجلا من هشام بن عروة آل حاطب بن أبي بلتعة كانت بينه وبين رجل من آل صهيب منازعة . . . فذكر الحديث في قتله ، قال : فركب يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب إلى في ذلك ، فقضى بالقسامة على ستة نفر من عبد الملك بن مروان آل حاطب ، فثنى عليهم الأيمان ، فطلب آل حاطب أن يحلفوا على اثنين ويقتلوهما ، فأبى عبد الملك إلا أن يحلفوا على واحد فيقتلوه ، فحلفوا على الصهيبي فقتلوه . قال هشام : فلم ينكر ذلك عروة ، ورأى أن قد أصيب فيه الحق ، وروينا فيه عن الزهري وربيعة .
ويذكر عن عن ابن أبي مليكة عمر بن عبد العزيز وابن الزبير : أنهما أقادا بالقسامة .
ويذكر عن أنه رجع عن ذلك ، وقال : إن وجد أصحابه بينة ، وإلا فلا تظلم الناس ، فإن هذا لا يقضى فيه إلى يوم القيامة . انتهى كلام عمر بن عبد العزيز البيهقي رحمه الله .
هذه هي أدلة من أوجب القود بالقسامة .
وأما حجج من قال : لا يجب بها إلا الدية فمنها ما ثبت في بعض روايات حديث سهل المذكور عند مسلم وغيره :
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " " . إما أن يدوا صاحبكم ، وإما أن يؤذنوا بحرب
قال النووي في شرح مسلم : معناه إن ثبت القتل عليهم بقسامتكم ، فإما أن يدوا صاحبكم - أي : يدفعوا إليكم ديته - وإما أن يعلمونا أنهم ممتنعون من التزام أحكامنا ، فينتقض عهدهم ، ويصيرون حربا لنا .
وفيه دليل لمن يقول : الواجب بالقسامة الدية دون القصاص . اهـ كلام النووي ، [ ص: 133 ] رحمه الله .
ومنها ما ثبت في بعض روايات الحديث المذكور في صحيح وغيره : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " البخاري " ، قالوا : هذه الرواية الثابتة في صحيح أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم صريحة في أن البخاري . المستحق بأيمان القسامة إنما هو الدية لا القصاص
ومن أدلتهم أيضا ما ذكره الحافظ ( في فتح الباري ) ، قال : وتمسك من قال : لا يجب فيها إلا الدية بما أخرجه في جامعه ، الثوري ، وابن أبي شيبة بسند صحيح إلى وسعيد بن منصور ، قال : وجد قتيل بين حيين من العرب ، فقال الشعبي عمر : قيسوا ما بينهما فأيهما وجدتموه إليه أقرب فأحلفوهم خمسين يمينا ، وأغرموهم الدية . وأخرجه عن الشافعي ، عن سفيان بن عيينة منصور ، عن : أن الشعبي عمر كتب في قتيل وجد بين خيران ووداعة أن يقاس ما بين القريتين ; فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليه منها خمسون رجلا حتى يوافوه في مكة ، فأدخلهم الحجر فأحلفهم ، ثم قضى عليهم الدية ، فقال : " حقنت بأيمانكم دماءكم ، ولا يطل دم رجل مسلم " .
قال : إنما أخذه الشافعي عن الشعبي ، الحارث الأعور والحارث غير مقبول . انتهى . وله شاهد مرفوع من حديث أبي سعيد عند أحمد : " ، ولكن سنده ضعيف . أن قتيلا وجد بين حيين فأمر النبي صلى الله عليه وسلم " أن يقاس إلى أيهما أقرب فألقى ديته على الأقرب
وقال عبد الرزاق في مصنفه : قلت : أعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة ؟ قال : لا . قلت : لعبد الله بن عمر العمري فأبو بكر ؟ قال : لا . قلت : فعمر ؟ قال : لا . قلت : فلم تجترئون عليها ؟ فسكت .
وأخرج البيهقي من طريق : أن القاسم بن عبد الرحمن عمر قال في القسامة : توجب العقل ولا تسقط الدم . انتهى كلام ابن حجر رحمه الله .
فهذه هي أدلة من قال : إن القسامة توجب الدية ولا توجب القصاص .
وأما حجة من قال : إن القسامة لا يلزم بها حكم ، فهي أن الذين يحلفون أيمان القسامة إنما يحلفون على شيء لم يحضروه ، ولم يعلموا أحق هو أم باطل ، وحلف الإنسان على شيء لم يره دليل على أنه كاذب .
قال في صحيحه : حدثنا البخاري ، حدثنا قتيبة بن سعيد أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم الأسدي ، حدثنا ، حدثنا الحجاج بن أبي عثمان أبو رجاء من آل أبي قلابة ، حدثني أبو [ ص: 134 ] قلابة : أن أبرز سريره يوما للناس ، ثم أذن لهم فدخلوا ، فقال : ما تقولون في القسامة ؟ قالوا : نقول القسامة القود بها حق ، وقد أقادت بها الخلفاء . قال لي : ما تقول يا عمر بن عبد العزيز أبا قلابة ؟ ونصبني للناس . فقلت : يا أمير المؤمنين ، عندك رءوس الأجناد وأشراف العرب ، أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى لم يروه ، أكنت ترجمه ؟ قال : لا . قلت : أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه سرق ، أكنت تقطعه ولم يروه ؟ قال : لا . قلت : فوالله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا قط إلا في إحدى ثلاث خصال : رجل قتل بجريرة نفسه فقتل ، أو رجل زنى بعد إحصان ، أو رجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام . . . إلى آخر حديثه .
ومراد أبي قلابة واضح ، وهو أنه كيف يقتل بأيمان قوم يحلفون على شيء لم يروه ولم يحضروه .
هذا هو حاصل كلام أهل العلم في القود بالقسامة ، وهذه حججهم .
قال مقيده عفا الله عنه : أظهر الأقوال عندي دليلا - القود بالقسامة ; لأن الرواية الصحيحة التي قدمنا فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " " ، وهذا معناه القتل بالقسامة كما لا يخفى . ولم يثبت ما يعارض هذا . والقسامة أصل وردت به السنة ، فلا يصح قياسه على غيره من رجم أو قطع ، كما ذهب إليه إنهم إن حلفوا أيمان القسامة دفع القاتل برمته إليهم في كلامه المار آنفا ; لأن القسامة أصل من أصول الشرع مستقل بنفسه ، شرع لحياة الناس وردع المعتدين ، ولم تمكن فيه أولياء المقتول من أيمان القسامة إلا مع حصول لوث يغلب على الظن به صدقهم في ذلك . أبو قلابة