قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : خير مقاما [ 19 \ 73 ] ، قرأه ابن كثير بضم الميم ، والباقون بفتحها ، وقوله : ورئيا ، قرأه قالون وابن ذكوان " وريا " بتشديد الياء من غير همز ، وقرأه الباقون بهمزة ساكنة بعد الراء وبعدها ياء مخففة .
ومعنى الآية الكريمة : أن كفار قريش كانوا إذا يتلو عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه آيات هذا القرآن في حال كونها بينات ، أي مرتلات الألفاظ ، واضحات المعاني بينات المقاصد ، إما محكمات جاءت واضحة ، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات ، أو تبيين الرسول صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا ، أو ظاهرات الإعجاز تحدي بها فلم يقدر على معارضتها ، أو حججا وبراهين .
والظاهر أن قوله : بينات حال مؤكدة ; لأن آيات الله لا تكون إلا كذلك ، ونظير ذلك قوله تعالى : وهو الحق مصدقا [ 35 \ 31 ] ، أي : إذا تتلى عليهم آيات الله في حال كونها متصفة بما ذكرنا عارضوها واحتجوا على بطلانها ، وأن الحق معهم لا مع من يتلوها بشبهة ساقطة لا يحتج بها إلا من لا عقل له ، ومضمون شبهتهم المذكورة : أنهم يقولون لهم : نحن أوفر منكم حظا في الدنيا ، فنحن أحسن منكم منازل ، وأحسن منكم متاعا ، وأحسن منكم منظرا ، فلولا أننا أفضل عند الله منكم لما آثرنا عليكم في الحياة الدنيا ، وأعطانا من نعيمها وزينتها ما لم يعطكم .
فقوله : أي الفريقين خير مقاما [ 19 \ 73 ] ، أي : نحن وأنتم أينا خير مقاما ، والمقام على قراءة ابن كثير بضم الميم محل الإقامة ، وهو المنازل والأمكنة التي يسكنونها ، وعلى قراءة الجمهور فالمقام - بفتح الميم - مكان القيام وهو موضع قيامهم وهو مساكنهم ومنازلهم ، وقيل : هو موضع القيام بالأمور الجليلة ، والأول هو الصواب .
وقوله : وأحسن نديا ، أي : مجلسا ومجتمعا ، والاستفهام في قوله : أي الفريقين الظاهر أنه استفهام تقرير ، ليحملوا به ضعفاء المسلمين الذين هم في تقشف ورثاثة هيئة على أن يقولوا أنتم خير مقاما وأحسن نديا منا ، وعلى كل حال فلا خلاف أن [ ص: 484 ] مقصودهم بالاستفهام المذكور أنهم - أي كفار قريش - خير مقاما وأحسن نديا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن ذلك هو دليلهم على أنهم على الحق ، وأنهم أكرم على الله من المسلمين ، وما في التلخيص وشروحه من أن السؤال بـ " أي " في الآية التي نحن بصددها سؤال بها عما يميز أحد المشتركين في أمر يعمهما كالعادة في أي غلط منهم ; لأنهم فسروا الآية الكريمة بغير معناها الصحيح ، والصواب ما ذكرناه إن شاء الله تعالى ، واستدلالهم هذا بحظهم في الحياة الدنيا على حظهم يوم القيامة ، وأن الله ما أعطاهم في الدنيا إلا لمكانتهم عنده ، واستحقاقهم لذلك - لسخافة عقولهم ، ذكره الله تعالى في مواضع من كتابه ، كقوله تعالى عنهم : وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم [ 46 \ 11 ] ، وقوله تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين [ 6 \ 53 ] ، وقوله تعالى : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 \ 35 ] ، وقوله تعالى : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 \ 55 - 56 ] ، وقوله : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا [ 19 \ 77 ] ، وقوله : قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 35 - 36 ] ، وقوله : ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى [ 41 \ 50 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، فكل هذه الآيات دالة على أنهم لجهلهم يظنون أن الله لم يعطهم نصيبا من الدنيا إلا لرضاه عنهم ، ومكانتهم عنده ، وأن الأمر في الآخرة سيكون كذلك .
وقد أبطل الله تعالى دعواهم هذه في آيات كثيرة من كتابه كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة : وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا [ 19 \ 74 ] ، والمعنى : أهلكنا قرونا كثيرة ، أي أمما كانت قبلهم وهم أكثر نصيبا في الدنيا منهم ، فما منعهم ما كان عندهم من زينة الدنيا ومتاعها من إهلاك الله إياهم لما عصوا وكذبوا رسله ، فلو كان الحظ والنصيب في الدنيا يدل على رضا الله والمكانة عنده لما أهلك الذين من قبلكم ، الذين هم أحسن أثاثا ورئيا منكم .
وقوله في هذه الآية الكريمة : وكم هي الخبرية ، ومعناها الإخبار بعدد كثير ، وهي في محل نصب على المفعول به لـ " أهلكنا " أي : أهلكنا كثيرا ، و من مبينة [ ص: 485 ] لـ وكم وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم ، قيل : سموا قرنا لاقترانهم في الوجود ، والأثاث : متاع البيت ، وقيل هو الجديد من الفرش ، وغير الجديد منها يسمى " الخرثي " بضم الخاء وسكون الراء والثاء المثلثة بعدها ياء مشددة ، وأنشد لهذا التفصيل قول الشاعر : الحسن بن علي الطوسي
تقادم العهد من أم الوليد بنا دهرا وصار أثاث البيت خرثيا
والإطلاق المشهور في العربية هو إطلاق الأثاث على متاع البيت مطلقا ، قال الفراء : لا واحد له ، ويطلق الأثاث على المال أجمع : الإبل ، والغنم ، والعبيد ، والمتاع ، والواحد أثاثة ، وتأثث فلان : إذا أصاب رياشا ، قاله الجوهري عن أبي زيد ، وقوله : ورئيا على قراءة الجمهور مهموزا ، أي : أحسن منظرا وهيئة ، وهو فعل بمعنى مفعول من : رأى ، البصرية ، والمراد به الذي تراه العين من هيئتهم الحسنة ومتاعهم الحسن ، وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي في هذا المعنى قوله :أشاقتك الظعائن يوم بانوا بذي الرئي الجميل من الأثاث
والآيات التي أبطل الله بها دعواهم هذه كثيرة ، كقوله تعالى : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] ، وقوله : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون [ 34 \ 37 ] ، وقوله : فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ 68 \ 44 ] ، وقوله تعالى : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون [ 6 \ 44 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، وقد قدمنا شيئا من ذلك .
وقول الكفار الذي حكاه الله عنهم في هذه الآية الكريمة : أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ، [ ص: 486 ] الظاهر فيه أن وجه ذكرهم للمقام والندي : أن المقام هو محل السكنى الخاص لكل واحد منهم ، والندي محل اجتماع بعضهم ببعض ، فإذا كان كل منهما للكفار أحسن من نظيره عند المسلمين دل ذلك على أن نصيبهم في الدنيا أوفر من نصيب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت ، ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر :
يومان يوم مقامات وأندية ويوم سير إلى الأعداء تأويب
وما قام منا قائم في ندينا فينطق إلا بالتي هي أعرف
ومن إطلاقه على القوم قوله : فليدع ناديه سندع الزبانية [ 96 \ 17 - 18 ] ، ومن إطلاق المجلس على القوم الجالسين فيه قول : ذي الرمة
لهم مجلس صهب السبال أذلة سواسية أحرارها وعبيدها
وأفعل التفضيل صله أبدا تقديرا أو لفظا بمن إن جردا فإن قيل : أين مرجع الضمير في هذه الآية الكريمة في قوله : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا ؟ الآية [ 19 \ 73 ] ، فالجواب : أنه راجع إلى الكفار [ ص: 487 ] المذكورين في قوله : ويقول الإنسان أئذا ما مت الآية [ 19 \ 66 ] ، وقوله : ونذر الظالمين فيها جثيا ، قاله القرطبي ، والعلم عند الله تعالى .