ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه ما يرسل الرسل إلا مبشرين من أطاعهم بالجنة ، ومنذرين من عصاهم بالنار ، وكرر هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 6 \ 48 ] ، وقد أوضحنا معنى البشارة والإنذار في أول هذه السورة الكريمة في الكلام على قوله تعالى : لينذر بأسا شديدا من لدنه الآية [ 18 \ 2 ] ، وانتصاب قوله " مبشرين " على الحال ، أي : ما نرسلهم إلا في حال كونهم مبشرين ومنذرين .
قوله تعالى : ليدحضوا به الحق ويجادل الذين كفروا بالباطل .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الذين كفروا يجادلون بالباطل ، أي : يخاصمون الرسل بالباطل ، كقولهم في الرسول : ساحر ، شاعر ، كاهن ، وكقولهم في القرآن : أساطير الأولين ، سحر ، شعر ، كهانة ، وكسؤالهم عن أصحاب الكهف ، وذي القرنين ، وسؤالهم عن الروح عنادا وتعنتا ، ليبطلوا الحق بجدالهم وخصامهم بالباطل ، فالجدال : المخاصمة ، ومفعول " يجادل " محذوف دل ما قبله عليه ; لأن قوله : وما نرسل المرسلين يدل على أن الذين يجادلهم الكفار بالباطل هم المرسلون المذكورون آنفا ، وحذف الفضلة إذا دل المقام عليها جائز ، وواقع كثيرا في القرآن وفي كلام العرب : كما عقده في الخلاصة بقوله :
وحذف فضلة أجز إن لم يضر كحذف ما سيق جوابا أو حصر
[ ص: 307 ] والباطل : ضد الحق وكل شيء زائل مضمحل تسميه العرب : باطلا ، ومنه قول لبيد :ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
وحائد عن القياس كل ما خالف في البابين حكما رسما
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا وما مواعيده إلا الأباطيل
أبا منذر رمت الوفاء فهبته وحدت كما حاد البعير عن الدحض
وقد بين تعالى في مواضع أخر ، أن ما أراده الكفار من إدحاض الحق بالباطل لا يكون ، وأنهم لا يصلون إلى ما أرادوا ، بل الذي سيكون هو عكس ما أرادوه فيحق [ الحق ] ويبطل الباطل ، كما قال تعالى : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ 61 \ 9 ] ، وكقوله : ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون [ 9 \ 33 ] ، وقولـه : والله متم نوره ولو كره الكافرون [ 9 \ 32 ] ، [ ص: 308 ] وقولـه تعالى : بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون [ 21 \ 18 ] ، وقولـه تعالى : وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا [ 17 \ 81 ] ، وقولـه تعالى : أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال [ 13 \ 17 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الحق سيظهر ويعلو ، وأن الباطل سيضمحل ويزهق ويذهب جفاء ، وذلك هو نقيض ما كان يريده الكفار من إبطال الحق وإدحاضه بالباطل عن طريق الخصام والجدال .
قوله تعالى : واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار اتخذوا آياته التي أنزلها على رسوله ، وإنذاره لهم هزؤا ، أي : سخرية واستخفافا ، والمصدر بمعنى اسم المفعول ، أي : اتخذوها مهزوءا بها مستخفا بها : كقوله : إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا [ 25 \ 30 ] .
وهذا المعنى المذكور هنا جاء مبينا في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا [ 45 \ 9 ] ، وكقوله تعالى : ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون [ 36 \ 30 ] ، وقولـه تعالى : ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون [ 6 \ 10 ] ، وقولـه تعالى : ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم الآية [ 9 \ 65 - 66 ] إلى غير ذلك من الآيات ، و " ما " في قوله " ما أنذروا " مصدرية ، كما قررنا ، وعليه فلا ضمير محذوف ، وقيل هي موصولة والعائد محذوف ، تقديره : " وما أنذروا به هزوا " ، وحذف العائد المجرور بحرف إنما يطرد بالشروط التي ذكرها في الخلاصة بقوله :
كذلك الذي جر بما الموصول جر كمر بالذي مررت فهو بر