قال ابن عطية : التوبة من الله رجوعه لعبده من حالة إلى حالة أرفع منه ، وقد يكون في الأكثر رجوعا عن حالة المعصية إلى حالة الطاعة ، وقد يكون رجوعا من حالة طاعة إلى أكمل منها . وهذه توبته في هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه رجع به من حالة قبل تحصيل الغزوة وتحمل مشاقها ، إلى حالة بعد ذلك أكمل منها . وأما توبته على المهاجرين والأنصار فحالها معرضة لأن تكون من نقصان إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة الدين ، وأما توبته على الفريق فرجوع من حالة محطوطة إلى حالة غفران ورضا . وقال : ( الزمخشري تاب الله على النبي ) كقوله تعالى : ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) ( واستغفر لذنبك ) وهو بعث للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار ، حتى النبي والمهاجرون والأنصار ، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله تعالى ، وأن صفة الأوابين صفة الأنبياء ، كما وصفهم بالصالحين لتظهر فضيلة الصلاح . وقيل : معناه تاب الله عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه لقوله تعالى : ( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) . انتهى . وقيل : لا يبعد أن صدر عن المهاجرين والأنصار أنواع من المخالفات ، إلا أنه تعالى تاب عليهم وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر ، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذكرهم تنبيها على عظم مراتبهم في قبول التوبة . ( اتبعوه ) أي : اتبعوا أمره ، فهو من مجاز الحذف . ويجوز أن يكون هو ابتدأ بالخروج ، وخرجوا بعده ، فيكون الاتباع حقيقة . ( ساعة العسرة ) ، أي : في وقت العسرة ، والساعة مستعارة للزمان المطلق ، كما استعاروا الغداة والعشية واليوم . قال :
غداة طفت علماء بكر بن وائل عشية قارعنا جذام وحميرا
وآخر :
إذا جاء يوما وارثي يبتغي الغنـى
وهي غزوة تبوك كانت تسمى غزوة العسرة ، ويجوز أن يريد بساعة العسرة الساعة التي وقع فيها عزمهم وانقيادهم لتحمل المشقة ، إذ السفرة كلها تبع لتلك الساعة ، وبها وفيها يقع الأجر على الله وترتبط النية ، فمن اعتزم على الغزو وهو معسر فقد أنفع في ساعة عسرة ، ولو اتفق أن يطرأ لهم غنى في سائر سفرهم لما اختل كونهم متبعين في ساعة العسرة . والعسرة : الضيق والشدة والعدم ، وهذا هو جيش العسرة الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " فجهزه من جهز جيش العسرة فله الجنة بألف جمل وألف دينار . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلب الدنانير بيده ، وقال : " عثمان بن عفان عثمان ما عمل بعد هذا " وجاء أنصاري بسبعمائة وسق من بر . وقال وما على مجاهد ، وقتادة ، والحسن : بلغت العسرة بهم إلى أن كان العشرة منهم يعتقبون على بعير واحد من قلة الظهر ، وإلى أن قسموا التمرة بين الرجلين ، وكان النفر يأخذون التمرة الواحدة فيمصها أحدهم ويشرب عليها الماء ، ثم يفعل بها كلهم ذلك . وقال رضي الله عنه : أصابهم في بعضها عطش شديد حتى جعلوا ينحرون الإبل ويشربون ما في كروشها من الماء ، [ ص: 109 ] ويعصرون الفرث حتى استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه يدعو ، فما رجعها حتى انسكبت سحابة ، فشربوا وادخروا ثم ارتحلوا ، فإذا السحابة لم تخرج عن العسكر . عمر بن الخطاب وفي هذه الغزوة هموا من المجاعة بنحر الإبل ، فأمر بجمع فضل أزوادهم حتى اجتمع منه على النطع شيء يسير ، فدعا فيه بالبركة ثم قال : " " وأكل القوم كلهم حتى شبعوا ، وفضلت فضلة . وكان الجيش ثلاثين ألفا وزيادة ، وهي آخر مغازيه ، وفيها خلف خذوا في أوعيتكم فملئوها حتى لم يبق وعاء عليا بالمدينة . وقال المنافقون خلفه بغضا له ، فأخبره بقولهم فقال : هارون من موسى " ؟ ووصل صلى الله عليه وسلم إلى أوائل بلاد العدو ، وبث السرايا ، فصالحه أهل أذرح وأيلة وغيرهما على الجزية ، وانصرف . " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة
( يزيغ قلوب فريق ) قال الحسن : همت فرقة بالانصراف لما لقوا من المشقة . وقيل : زيغها كان بظنون لها ساءت في معنى عزم الرسول على تلك الغزوة ، لما رأته من شدة العسرة وقلة الوفر ، وبعد الشقة ، وقوة العدو المقصود . وقال : تزيغ : تعدل عن الحق في المبايعة . وكاد تدل على القرب ، لا على التلبس بالزيغ . وقرأ ابن عباس حمزة وحفص : ( يزيغ ) بالياء ، فتعين أن يكون في كاد ضمير الشأن ، وارتفاع ( قلوب ) بـ ( تزيغ ) لامتناع أن يكون ( قلوب ) اسم كاد و ( تزيغ ) في موضع الخبر ؛ لأن النية به التأخير . ولا يجوز : من بعد ما كاد قلوب يزيغ ، بالياء . وقرأ باقي السبعة : بالتاء ، فاحتمل أن يكون ( قلوب ) اسم كاد ، و ( تزيغ ) الخبر ، وسط بينهما ، كما فعل ذلك بـ " كان " . قال أبو علي : ولا يجوز ذلك في عسى ، واحتمل أن يكون فاعل " كاد " ضميرا يعود على الجمع الذي يقتضيه ذكر المهاجرين والأنصار ، أي من بعد ما كاد هو ، أي : الجمع . وقد قدر المرفوع بكاد باسم ظاهر ، وهو القوم - ابن عطية وأبو البقاء ، كأنه قال : من بعد ما كاد القوم . وعلى كل واحد من هذه الأعاريب الثلاثة إشكال على ما تقرر في علم النحو : من أن خبر أفعال المقاربة لا يكون إلا مضارعا رافعا ضمير اسمها . فبعضهم أطلق ، وبعضهم قيد بغير عسى من أفعال المقاربة ، ولا يكون سببا ، وذلك بخلاف كان . فإن خبرها يرفع الضمير ، والسببي لاسم كاد ، فإذا قدرنا فيها ضمير الشأن كانت الجملة في موضع نصب على الخبر ، والمرفوع ليس ضميرا يعود على اسم كاد ، بل ولا سببا له ، وهذا يلزم في قراءة الياء أيضا . وأما توسيط الخبر فهو مبني على جواز مثل هذا التركيب في مثل : كان يقوم زيد ، وفيه خلاف ، والصحيح المنع . وأما توجيه الآخر فضعيف جدا من حيث أضمر في " كاد " ضمير ليس له على من يعود إلا بتوهم ، ومن حيث يكون خبر " كاد " واقعا سببيا ، ويخلص من هذه الإشكالات اعتقاد كون كاد زائدة ، ومعناها مراد ، ولا عمل لها إذ ذاك في اسم ولا خبر ، فتكون مثل كان إذا زيدت ، يراد معناها ولا عمل لها . ويؤيد هذا التأويل قراءة : " من بعد ما زاغت " بإسقاط كاد . وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في قوله تعالى : ( ابن مسعود لم يكد يراها ) مع تأثيرها للعامل ، وعملها هي . فأحرى أن يدعى زيادتها ، وهي ليست عاملة ولا معمولة .
وقرأ الأعمش والجحدري : ( تزيغ ) برفع التاء . وقرأ أبي : ( من بعد ما كادت تزيغ ) . ( ثم تاب عليهم ) : الضمير في ( عليهم ) عائد على الأولين ، أو على الفريق ، فالجملة كررت تأكيدا . أو يراد بالأول إنشاء التوبة ، وبالثاني استدامتها ، أو لأنه لما ذكر أن فريقا منهم كادت قلوبهم تزيغ نص على التوبة ثانيا رفعا لتوهم أنهم مسكوت عنهم في التوبة ، ثم ذكر سبب التوبة وهو رأفته بهم ورحمته لهم . والثلاثة الذين خلفوا تقدمت أسماؤهم ، ومعنى خلفوا عن الغزو غزو تبوك ، قاله قتادة . أو خلفوا عن أبي لبابة وأصحابه ، حيث تيب عليهم بعد التوبة على أبي لبابة وأصحابه وإرجاء أمرهم خمسين يوما ، ثم قبل توبتهم . وقد رد تأويل قتادة بنفسه ، فقال : معنى ( كعب بن مالك خلفوا ) تركوا عن قبول العذر ، وليس بتخلفنا عن الغزو . وقرأ الجمهور : ( خلفوا ) بتشديد [ ص: 110 ] اللام مبنيا للمفعول . وقرأ أبو مالك كذلك وخفف اللام . وقرأ عكرمة بن هارون المخزومي ، وذر بن حبيش ، ، وعمرو بن عبيد ومعاذ القارئ ، وحميد : بتخفيف اللام مبنيا للفاعل ، ورويت عن أبي عمرو ، أي : خلفوا الغازين بالمدينة ، أو فسدوا ; من الخالفة . وقرأ أبو العالية وأبو الجوزاء كذلك مشدد اللام . وقرأ أبو زيد ، وأبو مجلز ، ، والشعبي وابن يعمر ، وعلي بن الحسين ، وابناه زيد ومحمد الباقر ، وابنه : ( خالفوا ) بألف ، أي : لم يوافقوا على الغزو . وقال جعفر الصادق : ولو خلفوا لم يكن لهم . وقرأ الباقر : ( وعلى الثلاثة المخلفين ) ، ولعله قرأ كذلك على سبيل التفسير ؛ لأنها قراءة مخالفة لسواد المصحف . ( الأعمش حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ) تقدم تفسير نظيرها في هذه السورة في قصة حنين . ( وضاقت عليهم أنفسهم ) استعارة ؛ لأن الهم والغم ملأها بحيث لا يسعها أنس ولا سرور ، وخرجت عن فرط الوحشة والغم . ( وظنوا ) ، أي : علموا . قاله . وقال الزمخشري ابن عطية : أيقنوا ، كما قالوا في قول الشاعر :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد
وقال قوم : الظن هنا على بابه من ترجيح أحد الجائزين ؛ لأنه وقف أمرهم على الوحي ولم يكونوا قاطعين بأنه ينزل في شأنهم قرآن ، أو كانوا قاطعين لكنهم يجوزون تطويل المدة في بقائهم في الشدة ، فالظن عاد إلى تجويز تلك المدة قصيرة . وجاءت هذه الجمل في كنف " إذا " في غاية الحسن والترتيب ، فذكر أولا ضيق الأرض عليهم وهو كناية عن استيحاشهم ونبوة الناس عن كلامهم . وثانيا ( وضاقت عليهم أنفسهم ) وهو كناية عن تواتر الهم والغم على قلوبهم ، حتى لم يكن فيها شيء من الانشراح والاتساع ، فذكر أولا ضيق المحل ، ثم ثانيا ضيق الحال فيه ، لأنه قد يضيق المحل وتكون النفس منشرحة .
سم الخياط مع المحبوب ميدان
ثم ثالثا لما يئسوا من الخلق علقوا أمورهم بالله وانقطعوا إليه ، وعلموا أنه لا يخلص من الشدة ولا يفرجها إلا هو تعالى ( ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ) و " إذا " إن كانت شرطية فجوابها محذوف ، تقديره : تاب عليهم ، ويكون قوله : ( ثم تاب عليهم ) ، نظير قوله : ( ثم تاب عليهم ) ، بعد قوله ( لقد تاب الله على النبي ) الآية . ودعوى أن " ثم " زائدة وجواب " إذا " ما بعد " ثم " بعيد جدا ، وغير ثابت من لسان العرب زيادة " ثم " . ومن زعم أن " إذا " بعد " حتى " قد تجرد من الشرط وتبقى لمجرد الوقت فلا تحتاج إلى جواب بل تكون غاية للفعل الذي قبلها وهو قوله : ( خلفوا ) ، أي : خلفوا إلى هذا الوقت ( ثم تاب عليهم ليتوبوا ) ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرة أخرى ليستقيموا على توبتهم وينيبوا ، أو ليتوبوا أيضا فيما يستقبل إن فرطت منهم خطيئة ; علما منهم أن الله تواب على من تاب ، ولو عاد في اليوم مائة مرة . وقيل : معنى ( ليتوبوا ) ليدوموا على التوبة ولا يراجعوا ما يبطلها . وقيل : ( ليتوبوا ) ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم من الاختلاط بالمؤمنين ، وتستكن نفوسهم عند ذلك . قال ابن عطية : وقوله : ( ثم تاب عليهم ليتوبوا ) لما كان هذا القول في تعديد نعمه بدأ في ترتيبه بالجهة التي هي عن الله تعالى ليكون ذلك منبها على تلقي النعمة من عنده لا رب غيره ، ولو كان القول في تعديد ذنب لكان الابتداء بالجهة التي هي عن المذنب كما قال تعالى : ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) ليكون هذا أشد تقريرا للذنب عليهم ، وهذا من فصاحة القرآن وبديع نظمه ومعجز اتساقه . وبيان هذه الآية ومواقع ألفاظها أنها تكمل مع مطالعة حديث الثلاثة الذين خلفوا ، وقد خرج حديثهم بكماله البخاري ومسلم وهو في السير ، فلذلك اختصرت سوقه . وإنما عظم ذنبهم واستحقوا عليه ذلك لأن الشرع يطالبهم من الحد فيه بحسب منازلهم منه وتقدمهم فيه ، إذ هو أسوة وحجة للمنافقين والطاعنين ، إذ كان [ ص: 111 ] كعب من أهل العقبة ، وصاحباه من أهل بدر ، وفي هذا ما يقتضي أن الرجل العالم والمقتدى به أقل عذرا في السقوط من سواه . وكتب إلى الأوزاعي المنصور أبي جعفر في آخر رسالة : واعلم أن قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تزيد حق الله عليك إلا عظما ، ولا طاعته إلا وجوبا ، ولا الناس فيما خالف ذلك منك إلا إنكارا ، والسلام . ولقد أحسن القاضي التنوخي في قوله :
والعيب يعلق بالكبير كبير
وروي أن أناسا من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من بدا له فيلحق بهم ، ومنهم من بقي لم يلحق بهم ، منهم الثلاثة . وسئل كأبي خيثمة أبو بكر الوراق عن التوبة النصوح فقال : أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت ، وتضيق عليه نفسه كتوبة وصاحبيه . كعب بن مالك