القول في تأويل قوله تعالى : ( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ( 46 ) )
يقول - تعالى ذكره - مبينا عن سوء العذاب الذي حل بهؤلاء الأشقياء من قوم فرعون ذلك الذي حاق بهم من سوء عذاب الله ( النار يعرضون عليها ) إنهم لما هلكوا وغرقهم الله ، جعلت أرواحهم في أجواف طير سود ، فهي تعرض على النار كل يوم مرتين ( غدوا وعشيا ) إلى أن تقوم الساعة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا قال : ثنا محمد بن بشار عبد الرحمن قال : ثنا سفيان ، عن أبي قيس ، عن الهذيل بن شرحبيل قال : أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو وتروح على النار ، وذلك عرضها .
حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن قال : بلغني أن أرواح السدي قوم فرعون في أجواف طير سود تعرض على النار غدوا وعشيا ، [ ص: 396 ] حتى تقوم الساعة .
حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير قال : ثنا حماد بن محمد الفزاري البلخي قال : سمعت الأوزاعي وسأله رجل فقال : رحمك الله ، رأينا طيورا تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب بيضا ، فوجا فوجا ، لا يعلم عددها إلا الله ، فإذا كان العشي رجع مثلها سودا ، قال : وفطنتم إلى ذلك ؟ قالوا : نعم ، قال : إن تلك الطيور في حواصلها أرواح آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا ، فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها ، وصارت سوداء ، فتنبت عليها من الليل رياض بيض ، وتتناثر السود ، ثم تغدو ، ويعرضون على النار غدوا وعشيا ، ثم ترجع إلى وكورها ، فذلك دأبها في الدنيا؛ فإذا كان يوم القيامة ، قال الله ( أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) قالوا : وكانوا يقولون : إنهم ست مئة ألف مقاتل .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : ثني حرملة ، عن سليمان بن حميد قال : سمعت يقول : ليس في الآخرة ليل ولا نصف نهار ، وإنما هو بكرة وعشي ، وذلك في القرآن في محمد بن كعب القرظي آل فرعون ( يعرضون عليها غدوا وعشيا ) وكذلك قال لأهل الجنة ( ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ) .
وقيل : عنى بذلك : أنهم يعرضون على منازلهم في النار تعذيبا لهم غدوا وعشيا .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ) قال : يعرضون عليها صباحا ومساء ، يقال لهم : يا آل فرعون هذه منازلكم ، توبيخا ونقمة وصغارا لهم .
حدثنا محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، [ ص: 397 ] عن مجاهد قوله : ( غدوا وعشيا ) قال : ما كانت الدنيا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر أن آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا . وجائز أن يكون ذلك العرض على النار على نحو ما ذكرناه عن الهذيل ومن قال مثل قوله ، وأن يكون كما قال قتادة ، ولا خبر يوجب الحجة بأن ذلك المعني به ، فلا في ذلك إلا ما دل عليه ظاهر القرآن ، وهم أنهم يعرضون على النار غدوا وعشيا ، وأصل الغدو والعشي مصادر جعلت أوقاتا .
وكان بعض نحويي البصرة يقول في ذلك : إنما هو مصدر ، كما تقول : أتيته ظلاما؛ جعله ظرفا وهو مصدر . قال : ولو قلت : موعدك غدوة ، أو موعدك ظلام ، فرفعته ، كما تقول : موعدك يوم الجمعة ، لم يحسن ، لأن هذه المصادر وما أشبهها من نحو سحر لا تجعل إلا ظرفا؛ قال : والظرف كله ليس بمتمكن؛ وقال نحويو الكوفة : لم يسمع في هذه الأوقات ، وإن كانت مصادر ، إلا التعريب : موعدك يوم موعدك صباح ورواح ، كما قال - جل ثناؤه - : ( غدوها شهر ورواحها شهر ) فرفع ، وذكروا أنهم سمعوا : إنما الطيلسان شهران قالوا : ولم يسمع في الأوقات النكرات إلا الرفع إلا قولهم : إنما سخاؤك أحيانا ، وقالوا : إنما جاز ذلك لأنه بمعنى : إنما سخاؤك الحين بعد الحين ، فلما كان تأويله الإضافة نصب .
وقوله : ( ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) اختلفت القراء في قراءة ذلك فقرأته عامة قراء أهل الحجاز والعراق سوى عاصم وأبي عمرو ( ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون ) بفتح الألف من أدخلوا في الوصل والقطع بمعنى الأمر بإدخالهم النار . وإذا قرئ ذلك كذلك ، كان الآل نصبا بوقوع أدخلوا عليه ، وقرأ ذلك عاصم وأبو عمرو : " ويوم تقوم الساعة أدخلوا " بوصل الألف وسقوطها في الوصل من اللفظ ، وبضمها إذا ابتدئ بعد الوقف على [ ص: 398 ] الساعة ، ومن قرأ ذلك كذلك ، كان الآل على قراءته نصبا بالنداء ، لأن معنى الكلام على قراءته : ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال إنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القراء ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب . فمعنى الكلام إذن : ويوم تقوم الساعة يقال لآل فرعون : ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب ، فهذا على قراءة من وصل الألف من ادخلوا ولم يقطع ، ومعناه على القراءة الأخرى ، ويوم تقوم الساعة يقول الله لملائكته ( أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) .