القول في تأويل قوله تعالى : ( لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون ( 16 ) والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد ( 17 ) الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب ( 18 ) )
يقول - تعالى ذكره - لهؤلاء : ( الخاسرين يوم القيامة في جهنم من فوقهم ظلل من النار ) وذلك كهيئة الظلل المبنية من النار ( ومن تحتهم ظلل ) يقول : ومن تحتهم من النار ما يعلوهم ، حتى يصير ما يعلوهم منها من تحتهم ظللا وذلك نظير قوله - جل ثناؤه - لهم : ( من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ) يغشاهم مما تحتهم فيها من المهاد .
وقوله : ( ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون ) يقول - تعالى ذكره - : هذا الذي أخبرتكم أيها الناس به ، مما للخاسرين يوم القيامة من العذاب - تخويف من ربكم لكم ، يخوفكم به لتحذروه ، فتجتنبوا معاصيه ، وتنيبوا من كفركم إلى الإيمان به ، وتصديق رسوله ، واتباع أمره ونهيه ، فتنجوا من عذابه في الآخرة ( فاتقون ) يقول : فاتقوني بأداء فرائضي عليكم ، واجتناب معاصي ، لتنجوا من عذابي وسخطي .
وقوله : ( والذين اجتنبوا الطاغوت ) : أي اجتنبوا عبادة كل ما عبد من دون الله من شيء . وقد بينا معنى الطاغوت فيما مضى قبل بشواهد ذلك ، وذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، وذكرنا أنه في [ ص: 273 ] هذا الموضع : الشيطان ، وهو في هذا الموضع وغيره بمعنى واحد عندنا .
ذكر من قال ما ذكرنا في هذا الموضع :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله : ( والذين اجتنبوا الطاغوت ) قال : الشيطان .
حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن ( السدي والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ) قال : الشيطان .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ) قال : الشيطان هو هاهنا واحد وهي جماعة .
والطاغوت على قول ابن زيد هذا واحد مؤنث ، ولذلك قيل : أن يعبدوها . وقيل : إنما أنثت لأنها في معنى جماعة .
وقوله : ( وأنابوا إلى الله ) يقول : وتابوا إلى الله ورجعوا إلى الإقرار بتوحيده ، والعمل بطاعته ، والبراءة مما سواه من الآلهة والأنداد . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا زيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وأنابوا إلى الله ) : وأقبلوا إلى الله .
حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن قوله : ( السدي وأنابوا إلى الله ) قال : أجابوا إليه .
وقوله : ( لهم البشرى ) يقول : لهم البشرى في الدنيا بالجنة في الآخرة ( فبشر عبادي الذين يستمعون القول ) يقول - جل ثناؤه - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : فبشر يا محمد عبادي الذين يستمعون القول من القائلين ، فيتبعون أرشده وأهداه ، وأدله على توحيد الله ، والعمل بطاعته ، ويتركون ما سوى ذلك من [ ص: 274 ] القول الذي لا يدل على رشاد ، ولا يهدي إلى سداد .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( فيتبعون أحسنه ) وأحسنه طاعة الله .
حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن في قوله : ( فيتبعون أحسنه ) قال : أحسن ما يؤمرون به فيعملون به . السدي
وقوله : ( أولئك الذين هداهم الله ) يقول - تعالى ذكره - : الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، الذين هداهم الله ، يقول : وفقهم الله للرشاد وإصابة الصواب ، لا الذين يعرضون عن سماع الحق ، ويعبدون ما لا يضر ، ولا ينفع . وقوله : ( وأولئك هم أولو الألباب ) يعني : أولي العقول والحجا .
وذكر أن هذه الآية نزلت في رهط معروفين وحدوا الله ، وبرئوا من عبادة كل ما دون الله قبل أن يبعث نبي الله ، فأنزل الله هذه الآية على نبيه يمدحهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ) الآيتين ، حدثني أبي أن هاتين الآيتين نزلتا في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون : لا إله إلا الله : زيد بن عمرو وأبي ذر الغفاري نزل فيهم : ( وسلمان الفارسي والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ) في جاهليتهم ( وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) لا إله إلا الله ، أولئك الذين هداهم الله بغير كتاب ولا نبي ( وأولئك هم أولو الألباب ) .