يقول - تعالى ذكره - : إنا جعلنا أيمان هؤلاء الكفار مغلولة إلى أعناقهم بالأغلال ، فلا تبسط بشيء من الخيرات . وهي في قراءة عبد الله فيما ذكر ( إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا فهي إلى الأذقان ) وقوله ( إلى الأذقان ) يعني : فأيمانهم مجموعة بالأغلال في أعناقهم ، فكني عن الأيمان ، ولم يجر لها ذكر لمعرفة السامعين بمعنى الكلام ، وأن الأغلال إذا كانت في الأعناق لم تكن إلا وأيدي المغلولين مجموعة بها إليها ، فاستغنى بذكر كون الأغلال في الأعناق من ذكر الأيمان ، كما قال الشاعر :
وما أدري إذا يممت وجها أريد الخير أيهما يليني أألخير الذي أنا أبتغيه
أم الشر الذي لا يأتليني
وقوله ( فهم مقمحون ) والمقمح هو المقنع ، وهو أن يحدر الذقن حتى يصير في الصدر ، ثم يرفع رأسه في قول بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة ، وفي قول بعض الكوفيين : هو الغاض بصره بعد رفع رأسه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل [ ص: 494 ] .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ) قال : هو كقول الله ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) يعني بذلك أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم ، لا يستطيعون أن يبسطوها بخير .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله ( فهم مقمحون ) قال : رافعو رءوسهم ، وأيديهم موضوعة على أفواههم .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ) : أي فهم مغلولون عن كل خير .
وقوله ( وجعلنا من بين أيديهم سدا ) يقول - تعالى ذكره - : وجعلنا من بين أيدي هؤلاء المشركين سدا ، وهو الحاجز بين الشيئين ; إذا فتح كان من فعل بني آدم ، وإذا كان من فعل الله كان بالضم . وبالضم قرأ ذلك قراء المدينة ، والبصرة ، وبعض الكوفيين . وقرأه بعض المكيين وعامة قراء الكوفيين بفتح السين ( سدا ) في الحرفين كلاهما ; والضم أعجب القراءتين إلي في ذلك ، وإن كانت الأخرى جائزة صحيحة .
وعنى بقوله ( وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا ) أنه زين لهم سوء أعمالهم فهم يعمهون ، ولا يبصرون رشدا ، ولا يتنبهون حقا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن حميد قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، [ ص: 495 ] عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله ( من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا ) قال : عن الحق .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا ) عن الحق فهم يترددون .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا ) قال : ضلالات .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله ( وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) قال : جعل هذا سدا بينهم وبين الإسلام والإيمان ، فهم لا يخلصون إليه ، وقرأ ( وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) وقرأ ( إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ) . . . الآية كلها ، وقال : من منعه الله لا يستطيع .
وقوله ( فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) يقول : فأغشينا أبصار هؤلاء أي : جعلنا عليها غشاوة ; فهم لا يبصرون هدى ولا ينتفعون به .
كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) هدى ، ولا ينتفعون به .
وذكر أن هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام حين حلف أن يقتله أو يشدخ رأسه بصخرة .
ذكر الرواية بذلك :
حدثني عمران بن موسى قال : ثنا عبد الوارث بن سعيد قال : ثنا عمارة بن أبي حفصة ، عن عكرمة قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا لأفعلن ولأفعلن ، فأنزلت ( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا ) . . إلى قوله ( فهم لا يبصرون ) [ ص: 496 ] قال : فكانوا يقولون : هذا محمد ، فيقول أين هو ، أين هو؟ لا يبصره . وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك : ( فأعشيناهم فهم لا يبصرون ) بالعين بمعنى : أعشيناهم عنه ، وذلك أن العشا هو أن يمشي بالليل ولا يبصر .