يقول - تعالى ذكره - ( من المؤمنين ) بالله ورسوله ( رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) يقول : أوفوا بما عاهدوه عليه من الصبر على البأساء والضراء ، وحين البأس ( فمنهم من قضى نحبه ) يقول : فمنهم من فرغ من العمل الذي كان نذره الله وأوجبه له على نفسه ، فاستشهد بعض يوم بدر ، وبعض يوم أحد ، وبعض في غير ذلك من المواطن ( ومنهم من ينتظر ) قضاءه والفراغ منه ، كما قضى من مضى منهم على الوفاء لله بعهده ، والنصر من الله ، والظفر على عدوه . والنحب : النذر في كلام العرب . وللنحب أيضا في كلامهم وجوه غير ذلك ، منها الموت ، كما قال الشاعر :
قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر
يعني : منيته ونفسه ؛ ومنها الخطر العظيم ، كما قال جرير :
بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا عشية بسطام جرين على نحب
أي على خطر عظيم ؛ ومنها النحيب ، يقال : نحب في سيره يومه أجمع : إذا مد فلم ينزل يومه وليلته ؛ ومنها التنحيب ، وهو الخطار ، كما قال الشاعر :
وإذ نحبت كلب على الناس أيهم أحق بتاج الماجد المتكوم ؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : ثني يزيد بن رومان ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) : أي : وفوا الله بما عاهدوه عليه ( فمنهم من قضى نحبه ) أي فرغ من عمله ، ورجع إلى ربه ، كمن استشهد يوم بدر ويوم أحد ( ومنهم من ينتظر ) ما وعد الله من نصره والشهادة على ما مضى عليه أصحابه .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( فمنهم من قضى نحبه ) قال : عهده فقتل أو عاش ( ومنهم من ينتظر ) يوما فيه جهاد ، فيقضي ( نحبه ) عهده ، فيقتل أو يصدق في لقائه .
حدثنا ابن وكيع قال : ثنا ابن عيينة ، عن عن ابن جريج ، مجاهد ( فمنهم من قضى نحبه ) قال : عهده ( ومنهم من ينتظر ) قال : يوما فيه قتال ، فيصدق في اللقاء .
قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن مجاهد ( فمنهم من قضى نحبه ) قال : مات على العهد .
قال : ثنا أبو أسامة ، عن عبد الله بن فلان - قد سماه ، ذهب عني اسمه - عن أبيه ( فمنهم من قضى نحبه ) قال : نذره .
حدثنا ابن إدريس ، عن طلحة بن يحيى ، عن عمه عيسى بن طلحة : طلحة من باب المسجد وعليه ثوبان أخضران ، فقال : " هذا من الذين قضوا نحبهم " . [ ص: 239 ] أن أعرابيا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فسأله : من الذين قضوا نحبهم ؟ فأعرض عنه ، ثم سأله ، فأعرض عنه ، ودخل
حدثنا ابن بشار قال : ثنا هوذة قال : ثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله : ( فمنهم من قضى نحبه ) قال : موته على الصدق والوفاء . ( ومنهم من ينتظر ) الموت على مثل ذلك ، ومنهم من بدل تبديلا .
حدثني محمد بن عمارة قال : ثنا قال : أخبرنا عبيد الله بن موسى إسرائيل ، عن سعيد بن مسروق ، عن مجاهد ( فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ) قال : النحب : العهد .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ) على الصدق والوفاء ( ومنهم من ينتظر ) من نفسه الصدق والوفاء .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فمنهم من قضى نحبه ) قال : مات على ما هو عليه من التصديق والإيمان ( ومنهم من ينتظر ) ذلك .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا ابن أبي بكير قال : أخبرناه عن شريك بن عبد الله ، سالم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ( فمنهم من قضى نحبه ) قال : الموت على ما عاهد الله عليه ( ومنهم من ينتظر ) الموت على ما عاهد الله عليه .
وقيل : إن هذه الآية نزلت في قوم لم يشهدوا بدرا ، فعاهدوا الله أن يفوا قتالا للمشركين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فمنهم من أوفى فقضى نحبه ، ومنهم من بدل ، ومنهم من أوفى ولم يقض نحبه ، وكان منتظرا ، على ما وصفهم الله به من صفاتهم في هذه الآية .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمرو بن علي قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي قال : ثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، أن أنس بن النضر تغيب عن قتال بدر ، فقال : تغيبت عن أول مشهد شهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لئن رأيت قتالا ليرين الله ما أصنع ؛ فلما كان يوم أحد ، وهزم الناس ، لقي فقال : والله إني لأجد ريح الجنة ، فتقدم [ ص: 240 ] فقاتل حتى قتل ، فنزلت فيه هذه الآية : ( سعد بن معاذ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ) .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الله بن بكير قال : ثنا حميد قال : زعم أنس بن مالك قال : غاب ، أنس بن النضر عن قتال يوم بدر ، فقال : غبت عن قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشركين ، لئن أشهدني الله قتالا ليرين الله ما أصنع ؛ فلما كان يوم أحد ، انكشف المسلمون ، فقال : اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء المشركون ، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء ، يعني : المسلمين ، فمشى بسيفه ، فلقيه فقال : أي سعد بن معاذ ، سعد ، إني لأجد ريح الجنة دون أحد ، فقال سعد : يا رسول الله ، فما استطعت أن أصنع ما صنع ، قال أنس بن مالك : فوجدناه بين القتلى ، به بضع وثمانون جراحة ، بين ضربة بسيف ، وطعنة برمح ، ورمية بسهم ، فما عرفناه حتى عرفته أخته ببنانه ، قال أنس : فكنا نتحدث أن هذه الآية ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ) نزلت فيه ، وفي أصحابه .
حدثنا سوار بن عبد الله قال : ثنا المعتمر قال : سمعت حميدا يحدث ، عن أنس بن مالك ، أن أنس بن النضر : غاب عن قتال بدر ، ثم ذكر نحوه .
حدثنا أبو كريب قال : ثنا قال : ثنا يونس بن بكير طلحة بن يحيى ، عن موسى وعيسى بن طلحة عن طلحة من قضى نحبه ) من هو ؟ فسأله ، فأعرض عنه ، ثم سأله ، فأعرض عنه ، ثم دخلت من باب المسجد وعلي ثياب خضر ؛ فلما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أين السائل عمن قضى نحبه ؟ " قال الأعرابي : أنا يا رسول الله قال : " هذا ممن قضى نحبه " . أن أعرابيا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : وكانوا لا يجرءون على مسألته ، فقالوا للأعرابي : سله (
حدثنا أبو كريب قال : ثنا عن عبد الحميد الحماني ، إسحاق بن يحيى الطلحي ، عن قال : قام موسى بن طلحة فقال : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : معاوية بن أبي سفيان ، طلحة ممن قضى نحبه " . "
حدثني محمد بن عمرو بن تمام الكلبي قال : ثنا سليمان بن أيوب قال : ثني أبي ، عن إسحاق ، عن يحيى بن طلحة ، عن عمه عن أبيه موسى بن طلحة ، طلحة قال : أحد وصرنا بالمدينة ، صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - المنبر ، فخطب الناس [ ص: 241 ] وعزاهم ، وأخبرهم بما لهم فيه من الأجر ، ثم قرأ : ( رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) الآية ، قال : فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله ، من هؤلاء ؟ فالتفت وعلي ثوبان أخضران ، فقال : " أيها السائل هذا منهم " . لما قدمنا من
وقوله : ( وما بدلوا تبديلا ) : وما غيروا العهد الذي عاقدوا ربهم تغييرا ، كما غيره المعوقون القائلون لإخوانهم : هلم إلينا ، والقائلون : إن بيوتنا عورة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وما بدلوا تبديلا ) يقول : ما شكوا وما ترددوا في دينهم ، ولا استبدلوا به غيره .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وما بدلوا تبديلا ) : لم يغيروا دينهم كما غير المنافقون .
وقوله : ( ليجزي الله الصادقين بصدقهم ) يقول - تعالى ذكره - ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ليجزي الله الصادقين بصدقهم ) : يقول : ليثيب الله أهل الصدق بصدقهم الله بما عاهدوه عليه ، ووفائهم له به ( ويعذب المنافقين إن شاء ) بكفرهم بالله ونفاقهم ( أو يتوب عليهم ) من نفاقهم ، فيهديهم للإيمان .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم ) يقول : إن شاء أخرجهم من النفاق إلى الإيمان .
إن قال قائل : ما وجه الشرط في قوله : ( ويعذب المنافقين ) بقوله : ( إن شاء ) والمنافق كافر وهل يجوز أن لا يشاء تعذيب المنافق ، فيقال : ويعذبه إن شاء ؟ قيل : إن معنى ذلك على غير الوجه الذي توهمته . وإنما معنى ذلك : ويعذب المنافقين بأن لا يوفقهم للتوبة من نفاقهم حتى يموتوا على كفرهم إن شاء ، فيستوجبوا بذلك العذاب ، فالاستثناء إنما هو من التوفيق لا من العذاب إن ماتوا على نفاقهم .
وقد بين ما قلنا في ذلك قوله : ( أو يتوب عليهم ) فمعنى الكلام إذن : ويعذب المنافقين إذ لم يهدهم للتوبة ، فيوفقهم لها ، أو يتوب عليهم فلا يعذبهم . [ ص: 242 ]
وقوله : ( إن الله كان غفورا رحيما ) يقول : إن الله كان ذا ستر على ذنوب التائبين ، رحيما بالتائبين أن يعاقبهم بعد التوبة .