اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( فظلت أعناقهم ) . . . الآية ، فقال بعضهم : معناه : فظل القوم الذين أنزل عليهم من السماء آية خاضعة أعناقهم لها من الذلة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ، عن ابن جريج مجاهد في قوله : ( فظلت أعناقهم لها خاضعين ) قال : فظلوا خاضعة أعناقهم لها .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( خاضعين ) قال : لو شاء الله لنزل عليه آية يذلون بها ، فلا يلوي أحد عنقه إلى معصية الله .
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن : [ ص: 331 ] ( ابن جريج باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية ) قال : لو شاء الله لأراهم أمرا من أمره لا يعمل أحد منهم بعده بمعصية .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( فظلت أعناقهم لها خاضعين ) قال : ملقين أعناقهم .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( فظلت أعناقهم لها خاضعين ) قال : الخاضع : الذليل .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فظلت سادتهم وكبراؤهم للآية خاضعين ، ويقول : الأعناق : هم الكبراء من الناس .
واختلف أهل العربية في وجه تذكير ( خاضعين ) ، وهو خبر عن الأعناق ، فقال بعض نحويي البصرة : يزعمون أن قوله ( أعناقهم ) على الجماعات ، نحو : هذا عنق من الناس كثير ، أو ذكر كما يذكر بعض المؤنث ، كما قال الشاعر :
تمززتها والديك يدعو صباحه إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا
فجماعات هذا أعناق ، أو يكون ذكره لإضافته إلى المذكر كما يؤنث لإضافته إلى [ ص: 332 ] المؤنث ، كما قال الأعشى :
وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم
وقال العجاج :
لما رأى متن السماء أبعدت
وقال : الفرزدق
إذا القنبضات السود طوفن بالضحى رقدن عليهن الحجال المسجف
وقال الأعشى :
وإن امرأ أهدى إليك ودونه من الأرض يهماء وبيداء خيفق
لمحقوقة أن تستجيبي لصوته وأن تعلمي أن المعان الموفق
قال : ويقولون : بنات نعش وبنو نعش ، ويقال : بنات عرس ، وبنو عرس ; وقالت امرأة : أنا امرؤ لا أخبر السر ، قال : وذكر لرؤبة رجل فقال : هو كان أحد بنات مساجد الله ، يعني الحصى . وكان بعض نحويي الكوفة يقول : هذا بمنزلة قول الشاعر :
ترى أرماحهم متقلديها إذا صدئ الحديد على الكماة
فمعناه عنده : فظلت أعناقهم خاضعيها هم ، كما يقال : يدك باسطها ، بمعنى : يدك باسطها أنت ، فاكتفى بما ابتدأ به من الاسم أن يكون ، فصار الفعل كأنه للأول وهو للثاني ، وكذلك قوله :
لمحقوقة أن تستجيبي لصوته
إنما هو لمحقوقة أنت ، والمحقوقة : الناقة ، إلا أنه عطفه على المرء لما عاد بالذكر . وكان آخر منهم يقول : الأعناق : الطوائف ، كما يقال : رأيت الناس إلى فلان عنقا واحدة ، فيجعل الأعناق الطوائف والعصب ; ويقول : يحتمل أيضا أن تكون الأعناق هم السادة والرجال الكبراء ، فيكون كأنه قيل : [ ص: 334 ] فظلت رءوس القوم وكبراؤهم لها خاضعين ، وقال : أحب إلي من هذين الوجهين في العربية أن يقال : إن الأعناق إذا خضعت فأربابها خاضعون ، فجعلت الفعل أولا للأعناق ، ثم جعلت خاضعين للرجال ، كما قال الشاعر :على قبضة مرجوة ظهر كفه فلا المرء مستحي ولا هو طاعم
فأنث فعل الظهر ، لأن الكف تجمع الظهر ، وتكفي منه ، كما أنك تكتفي بأن تقول : خضعت لك ، من أن تقول : خضعت لك رقبتي ، وقال : ألا ترى أن العرب تقول : كل ذي عين ناظر وناظرة إليك ، لأن قولك : نظرت إليك عيني ، ونظرت إليك بمعنى واحد بترك كل ، وله الفعل ومرده إلى العين ، فلو قلت : فظلت أعناقهم لها خاضعة ، كان صوابا .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب وأشبهها بما قال أهل التأويل في ذلك أن تكون الأعناق هي أعناق الرجال ، وأن يكون معنى الكلام : فظلت أعناقهم ذليلة ، للآية التي ينزلها الله عليهم من السماء ، وأن يكون قوله " خاضعين " مذكرا ، لأنه خبر عن الهاء والميم في الأعناق ، فيكون ذلك نظير قول جرير :
أرى مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال
وذلك أن قوله : مر ، لو أسقط من الكلام ، لأدى ما بقي من الكلام عنه ولم يفسد سقوطه معنى الكلام عما كان به قبل سقوطه ، وكذلك لو أسقطت الأعناق من [ ص: 335 ] قوله : فظلت أعناقهم ، لأدى ما بقي من الكلام عنها ، وذلك أن الرجال إذا ذلوا ، فقد ذلت رقابهم ، وإذا ذلت رقابهم فقد ذلوا .
فإن قيل في الكلام : فظلوا لها خاضعين ، كان الكلام غير فاسد ، لسقوط الأعناق ، ولا متغير معناه عما كان عليه قبل سقوطها ، فصرف الخبر بالخضوع إلى أصحاب الأعناق ، وإن كان قد ابتدأ بذكر الأعناق لما قد جرى به استعمال العرب في كلامهم ، إذا كان الاسم المبتدأ به ، وما أضيف إليه يؤدي الخبر كل واحد منهما عن الآخر .