يقول تعالى ذكره : وكن لهما ذليلا رحمة منك بهما تطيعهما فيما أمراك به مما لم يكن لله معصية ، ولا تخالفهما فيما أحبا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله : ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) قال : لا تمتنع من شيء يحبانه .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا الأشجعي ، قال : سمعت هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) قال : هو أن تلين لهما حتى لا تمتنع من شيء أحباه .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا أيوب بن سويد ، قال : ثنا الثوري ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) قال : لا تمتنع من شيء أحباه .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا عن عبد الله بن المختار ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله ( ابن علية ، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) قال : هو أن لا تمتنع من شيء يريدانه . [ ص: 419 ]
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا المقرئ أبو عبد الرحمن ، عن حرملة بن عمران ، عن أبي الهداج ، قال : قلت : ما قوله ( لسعيد بن المسيب واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) قال : ألم تر إلى قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ . والذل بضم الذال والذلة مصدران من الذليل ، وذلك أن يتذلل ، وليس بذليل في الخلقة من قول القائل : قد ذللت لك أذل ذلة وذلا وذلك نظير القل والقلة ، إذا أسقطت الهاء ضمت الذال من الذل ، والقاف من القل ، وإذا أثبتت الهاء كسرت الذال من الذلة ، والقاف من القلة ، لما قال الأعشى :
وما كنت قلا قبل ذلك أزيبا
يريد : القلة ، وأما الذل بكسر الذال وإسقاط الهاء فإنه مصدر من الذلول من قولهم : دابة ذلول : بينة الذل ، وذلك إذا كانت لينة غير صعبة .
ومنه قول الله جل ثناؤه ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا ) يجمع ذلك ذللا كما قال جل ثناؤه ( فاسلكي سبل ربك ذللا ) . وكان مجاهد يتأول ذلك أنه لا يتوعر عليها مكان سلكته .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق والشام ( واخفض لهما جناح الذل ) بضم الذال على أنه مصدر من الذليل . وقرأ ذلك سعيد بن جبير وعاصم الجحدري : ( جناح الذل ) بكسر الذال .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا بهز بن أسد ، قال : ثنا أبو عوانة ، عن أبي [ ص: 420 ] بشر ، عن سعيد بن جبير أنه قرأ ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) قال : كن لهما ذليلا ولا تكن لهما ذلولا .
حدثنا نصر بن علي ، قال : أخبرني عمر بن شقيق ، قال : سمعت عاصما الجحدري يقرأ ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) قال : كن لهما ذليلا ولا تكن لهما ذلولا .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عمر بن شقيق ، عن عاصم ، مثله .
قال أبو جعفر : وعلى هذا التأويل الذي تأوله عاصم كان ينبغي أن تكون قراءته بضم الذال لا بكسرها وبكسرها .
حدثنا نصر وابن بشار ، وحدثت عن الفراء ، قال : ثني هشيم ، عن أبي بشر جعفر بن إياس . عن سعيد بن جبير ، أنه قرأ ( واخفض لهما جناح الذل ) قال الفراء : وأخبرني الحكم بن ظهير ، عن عاصم بن أبى النجود ، أنه قرأها الذل أيضا ، فسألت أبا بكر فقال : الذل قرأها عاصم .
وأما قوله ( وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ) فإنه يقول : ادع الله لوالديك بالرحمة ، وقل رب ارحمهما ، وتعطف عليهما بمغفرتك ورحمتك ، كما تعطفا علي في صغري ، فرحماني وربياني صغيرا ، حتى استقللت بنفسي ، واستغنيت عنهما .
كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ) هكذا علمتم ، وبهذا أمرتم ، خذوا تعليم الله وأدبه ، ذكر لنا " أن نبي الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم وهو ماد يديه رافع صوته يقول : من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار بعد ذلك فأبعده الله وأسحقه " . ولكن كانوا يرون أنه من بر والديه ، وكان فيه أدنى تقى ، فإن ذلك مبلغه جسيم الخير ، وقال جماعة من أهل العلم : إن قول الله جل ثناؤه ( وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ) منسوخ بقوله ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي بن داود ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : [ ص: 421 ] ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ) ثم أنزل الله عز وجل بعد هذا ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا ، قال : ثنا يحيى بن واضح الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة ، قال في سورة بني إسرائيل ( إما يبلغان عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ) . . . . إلى قوله ( وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) فنسختها الآية التي في براءة ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ) . . . الآية .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال قال ابن جريج ، ابن عباس ( وقل رب ارحمهما ) . . . . الآية ، قال : نسختها الآية التي في براءة ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) . . . الآية .
وقد تحتمل هذه الآية أن تكون وإن كان ظاهرها عاما في كل الآباء بغير معنى النسخ ، بأن يكون تأويلها على الخصوص ، فيكون معنى الكلام : وقل رب ارحمهما إذا كانا مؤمنين ، كما ربياني صغيرا ، فتكون مرادا بها الخصوص على ما قلنا غير منسوخ منها شيء . وعنى بقوله ربياني : نمياني .