قال أبو جعفر : اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى قوله ( أفلم ييأس ) .
فكان بعض أهل البصرة يزعم أن معناه : ألم يعلم ويتبين ، ويستشهد لقيله ذلك ببيت سحيم بن وثيل الرياحي :
أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم
ويروى : "ييسرونني" فمن رواه : "ييسرونني" فإنه أراد : يقتسمونني ، من "الميسر" كما يقسم الجزور . ومن رواه : "يأسرونني" فإنه أراد الأسر ، وقال : عنى بقوله : "ألم تيأسوا" ألم تعلموا . وأنشدوا أيضا في ذلك :ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
وذكر عن ابن الكلبي أن ذلك لغة لحي من النخع يقال لهم : وهبيل ، تقول : ألم تيأس كذا ، بمعنى : ألم تعلمه؟
وذكر عن القاسم بن معن أنها لغة هوازن ، وأنهم يقولون : "يئست كذا" علمت .
وأما بعض الكوفيين فكان ينكر ذلك ، ويزعم أنه لم يسمع أحدا من العرب يقول : "يئست" بمعنى : "علمت" . ويقول هو في المعنى وإن لم يكن مسموعا : "يئست" بمعنى : علمت يتوجه إلى ذلك إذ أنه قد أوقع إلى المؤمنين ، أنه لو شاء لهدى الناس جميعا ، فقال : "أفلم ييأسوا علما" يقول : يؤيسهم العلم ، فكأن فيه "العلم" مضمرا ، كما يقال : قد يئست منك أن لا تفلح علما ، كأنه قيل : علمته علما قال : وقول الشاعر :
حتى إذا يئس الرماة وأرسلوا غضفا دواجن قافلا أعصامها
وأما أهل التأويل فإنهم تأولوا ذلك بمعنى : أفلم يعلم ويتبين .
ذكر من قال ذلك
20408 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم ، عن أبي إسحاق الكوفي ، عن [ مولى مولى بحير ] أن عليا رضي الله عنه كان يقرأ : "أفلم يتبين الذين آمنوا" .
20409 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن هارون ، عن حنظلة ، عن ، عن شهر بن حوشب ابن عباس : ( أفلم ييأس ) يقول : أفلم يتبين .
20410 - حدثنا أحمد بن يوسف قال : حدثنا القاسم قال : حدثنا يزيد ، عن جرير بن حازم ، عن الزبير بن الخريت أو يعلى بن حكيم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرؤها : "أفلم يتبين الذين آمنوا "؛ قال : كتب الكاتب الأخرى وهو ناعس .
[ ص: 453 ] 20411 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا ، عن حجاج بن محمد قال في القراءة الأولى . زعم ابن جريج ابن كثير وغيره : "أفلم يتبين" .
20412 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( أفلم ييأس الذين آمنوا ) يقول : ألم يتبين .
20413 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( أفلم ييأس الذين آمنوا ) ، يقول : يعلم .
20414 - حدثنا عمران بن موسى قال : حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا ليث ، عن مجاهد ، في قوله : ( أفلم ييأس الذين آمنوا ) قال : أفلم يتبين .
20415 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : ( أفلم ييأس الذين آمنوا ) قال : ألم يتبين الذين آمنوا .
20416 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( أفلم ييأس الذين آمنوا ) قال : ألم يعلم الذين آمنوا .
[ ص: 455 ] 20417 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أفلم ييأس الذين آمنوا ) قال : ألم يعلم الذين آمنوا .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قاله أهل التأويل : إن تأويل ذلك : "أفلم يتبين ويعلم" لإجماع أهل التأويل على ذلك ، والأبيات التي أنشدناها فيه .
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذا : ولو أن قرآنا سوى هذا القرآن كان سيرت به الجبال ، لسير بهذا القرآن ، أو قطعت به الأرض لقطعت بهذا ، أو كلم به الموتى ، لكلم بهذا ، ولكن لم يفعل ذلك بقرآن قبل هذا القرآن فيفعل بهذا ( بل لله الأمر جميعا ) ، يقول : ذلك كله إليه وبيده ، يهدي من يشاء إلى الإيمان فيوفقه له ، ويضل من يشاء فيخذله ، أفلم يتبين الذين آمنوا بالله ورسوله إذ طمعوا في إجابتي من سأل نبيهم ما سأله من تسيير الجبال عنهم ، وتقريبأرض الشأم عليهم ، وإحياء موتاهم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا إلى الإيمان به من غير إيجاد آية ، ولا إحداث شيء مما سألوا إحداثه؟ يقول تعالى ذكره : فما معنى محبتهم ذلك ، مع علمهم بأن الهداية والإهلاك إلي وبيدي ، أنزلت آية أو لم أنزلها؛ أهدي من أشاء بغير إنزال آية ، وأضل من أردت مع إنزالها .