قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله من أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ( لا تخونوا الله ) ، وخيانتهم الله ورسوله ، كانت بإظهار من أظهر منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الإيمان في الظاهر والنصيحة ، وهو يستسر الكفر والغش لهم في الباطن ، يدلون المشركين على عورتهم ، ويخبرونهم بما خفي عنهم من خبرهم . * * *
وقد اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية ، وفي السبب الذي نزلت فيه .
فقال بعضهم : نزلت في منافق كتب إلى أبي سفيان يطلعه على سر المسلمين .
* ذكر من قال ذلك .
15922 - حدثنا القاسم بن بشر بن معروف قال ، حدثنا شبابة بن سوار قال ، حدثنا محمد بن المحرم قال ، لقيت عطاء بن أبي رباح فحدثني قال ، حدثني : أن جابر بن عبد الله أبا سفيان خرج من مكة ، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا ، فاخرجوا إليه واكتموا ! " قال : فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان : " إن محمدا يريدكم ، فخذوا حذركم " ! فأنزل الله عز وجل : ( لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم ) . [ ص: 481 ]
وقال آخرون : بل نزلت في أبي لبابة ، في الذي كان من أمره وأمر بني قريظة .
* ذكر من قال ذلك .
15923 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن الزهري ، لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم " ، قال : نزلت في أبي لبابة ، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأشار إلى حلقه : إنه الذبح قال الزهري : فقال ، أبو لبابة : لا والله ، لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت [ ص: 482 ] أو يتوب الله علي ! فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه ، ثم تاب الله عليه . فقيل له : يا أبا لبابة ، قد تيب عليك ! قال : والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني . فجاءه فحله بيده . ثم قال أبو لبابة : إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت بها الذنب ، وأن أنخلع من مالي ! قال : " يجزيك الثلث أن تصدق به . قوله : "
15924 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة قال ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال : سمعت عبد الله بن أبي قتادة يقول : نزلت : " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون " في أبي لبابة . * * *
وقال آخرون : بل نزلت في شأن عثمان رحمة الله عليه .
* ذكر من قال ذلك .
15925 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا يونس بن الحارث الطائفي قال ، حدثنا محمد بن عبيد الله بن عون الثقفي ، عن المغيرة بن شعبة قال : نزلت هذه الآية في قتل عثمان رحمة الله عليه : " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول " الآية . * * * [ ص: 483 ]
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله نهى المؤمنين عن خيانته وخيانة رسوله ، وخيانة أمانته وجائز أن تكون نزلت في أبي لبابة وجائز أن تكون نزلت في غيره ، ولا خبر عندنا بأي ذلك كان يجب التسليم له بصحته .
فمعنى الآية وتأويلها ما قدمنا ذكره . * * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك :
15926 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد ، في قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول " قال : نهاكم أن تخونوا الله والرسول ، كما صنع المنافقون .
15927 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط . عن : " السدي لا تخونوا الله والرسول " الآية ، قال : كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين . * * *
واختلفوا في تأويل قوله : " وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون " .
فقال بعضهم : لا تخونوا الله والرسول ، فإن ذلك خيانة لأمانتكم وهلاك لها . [ ص: 484 ]
* ذكر من قال ذلك .
15928 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن : " السدي يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم " ، فإنهم إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم .
15929 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون " ، أي لا تظهروا لله من الحق ما يرضى به منكم ، ثم تخالفوه في السر إلى غيره ، فإن ذلك هلاك لأماناتكم ، وخيانة لأنفسكم . * * *
قال أبو جعفر : فعلى هذا التأويل قوله : " وتخونوا أماناتكم " ، في موضع نصب على الصرف
كما قال الشاعر :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
ويروى : " وتأتي مثله " . * * *
وقال آخرون : معناه : لا تخونوا الله والرسول ، ولا تخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون .
* ذكر من قال ذلك .
15930 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، [ ص: 485 ] عن علي ، عن ابن عباس قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم " ، يقول : " لا تخونوا " : يعني لا تنقصوها . * * *
قال أبو جعفر : فعلى هذا التأويل : لا تخونوا الله والرسول ، ولا تخونوا أماناتكم .
واختلف أهل التأويل في معنى : الأمانة ، التي ذكرها الله في قوله : " وتخونوا أماناتكم " .
فقال بعضهم : هي ما يخفى عن أعين الناس من فرائض الله .
* ذكر من قال ذلك .
15931 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : " وتخونوا أماناتكم " ، و" الأمانة " : الأعمال التي أمن الله عليها العباد يعني : الفريضة . يقول : " لا تخونوا " ، يعني : لا تنقصوها .
15932 - حدثنا علي بن داود قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله " ، يقول : بترك فرائضه " والرسول " ، يقول : بترك سننه ، وارتكاب معصيته قال : وقال مرة أخرى : " لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم " ، والأمانة : الأعمال ، ثم ذكر نحو حديث المثنى . * * *
وقال آخرون : معنى " الأمانات " ، ههنا ، الدين .
* ذكر من قال ذلك .
15933 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وتخونوا أماناتكم " دينكم " وأنتم تعلمون " ، قال : قد فعل ذلك [ ص: 486 ] المنافقون ، وهم يعلمون أنهم كفار ، يظهرون الإيمان . وقرأ : وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى [ سورة النساء : 142 ] . قال : هؤلاء المنافقون ، أمنهم الله ورسوله على دينه ، فخانوا ، أظهروا الإيمان وأسروا الكفر . * * *
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذن : يا أيها الذين آمنوا ، لا تنقصوا الله حقوقه عليكم من فرائضه ، ولا رسوله من واجب طاعته عليكم ، ولكن أطيعوهما فيما أمراكم به ونهياكم عنه ، لا تنقصوهما " وتخونوا أماناتكم " ، وتنقصوا أديانكم ، وواجب أعمالكم ، ولازمها لكم " وأنتم تعلمون " ، أنها لازمة عليكم ، وواجبة بالحجج التي قد ثبتت لله عليكم . * * *