قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - : واتقوا الله ، أيها الناس . واسمعوا وعظه إياكم وتذكيره لكم ، واحذروا يوم يجمع الله الرسل ثم حذف " واحذروا " واكتفى بقوله : " واتقوا الله واسمعوا " عن إظهاره ، كما قال الراجز :
علفتها تبنا وماء باردا حتى شتت همالة عيناها
يريد : " وسقيتها ماء باردا " فاستغنى بقوله " علفتها تبنا " من إظهار " سقيتها " إذ كان السامع إذا سمعه عرف معناه . فكذلك في قوله : " يوم يجمع الله الرسل " حذف " واحذروا " لعلم السامع معناه ، اكتفاء بقوله : " واتقوا الله واسمعوا " إذ كان ذلك تحذيرا من أمر الله - تعالى ذكره - ، خلقه عقابه على معاصيه .
وأما قوله : " ماذا أجبتم " فإنه يعني به : ما الذي أجابتكم به أممكم ، حين [ ص: 210 ] دعوتموهم إلى توحيدي ، والإقرار بي ، والعمل بطاعتي ، والانتهاء عن معصيتي؟ " قالوا لا علم لنا " .
فاختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .
فقال بعضهم : معنى قولهم : " لا علم لنا " لم يكن ذلك من الرسل إنكارا أن يكونوا كانوا عالمين بما عملت أممهم ، ولكنهم ذهلوا عن الجواب من هول ذلك اليوم ، ثم أجابوا بعد أن ثابت إليهم عقولهم بالشهادة على أممهم .
ذكر من قال ذلك :
12986 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل . قال : حدثنا أسباط ، عن : " السدي يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا " قال : فذلك أنهم نزلوا منزلا ذهلت فيه العقول ، فلما سئلوا قالوا : " لا علم لنا " ثم نزلوا منزلا آخر ، فشهدوا على قومهم .
12987 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة . . . . . . . . . قال : سمعت الحسن يقول في قوله : " يوم يجمع الله الرسل " الآية ، قال : من هول ذلك اليوم .
12988 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن الأعمش ، عن مجاهد في قوله : " يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم " فيفزعون ، فيقول : ماذا أجبتم ؟ فيقولون : لا علم لنا !
وقال آخرون : معنى ذلك : لا علم لنا إلا ما علمتنا . [ ص: 211 ]
ذكر من قال ذلك :
12989 - حدثنا قال : حدثنا محمد بن بشار مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مجاهد في قوله : " يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم " فيقولون : لا علم لنا إلا ما علمتنا " إنك أنت علام الغيوب " .
وقال آخرون : معنى ذلك : قالوا لا علم لنا ، إلا علم أنت أعلم به منا .
ذكر من قال ذلك :
12990 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا " إلا علم أنت أعلم به منا .
وقال آخرون : معنى ذلك : " ماذا أجبتم " ماذا عملوا بعدكم؟ وماذا أحدثوا؟
ذكر من قال ذلك :
12991 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن قوله : " ابن جريج يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم " ماذا عملوا بعدكم؟ وماذا أحدثوا بعدكم؟ " قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب " .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب ، قول من قال : " معناه : لا علم لنا ، إلا علم أنت أعلم به منا " لأنه - تعالى ذكره - أخبر عنهم أنهم قالوا : " لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب " أي : إنك لا يخفى عليك ما عندنا من علم ذلك ولا غيره من خفي العلوم وجليها . فإنما نفى القوم أن يكون لهم بما سئلوا عنه من ذلك علم لا يعلمه هو - تعالى ذكره - لا أنهم نفوا أن يكونوا علموا ما شاهدوا . وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك ، وهو - تعالى ذكره - يخبر عنهم أنهم يخبرون بما أجابتهم به الأمم ، [ ص: 212 ] وأنهم يستشهدون على تبليغهم الرسالة شهداء ، فقال - تعالى ذكره - : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ سورة البقرة : 143 ] .
وأما الذي قاله من أن معناه : " ماذا عملت الأمم بعدكم؟ وماذا أحدثوا؟ " فتأويل لا معنى له . لأن الأنبياء لم يكن عندها من العلم بما يحدث بعدها إلا ما أعلمها الله من ذلك ، وإذا سئلت عما عملت الأمم بعدها والأمر كذلك ، فإنما يقال لها : ماذا عرفناك أنه كائن منهم بعدك؟ وظاهر خبر الله - تعالى ذكره - عن مسألته إياهم ، يدل على غير ذلك . ابن جريج ،