القول في إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ( 91 ) ) تأويل قوله (
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : إنما يريد لكم الشيطان شرب الخمر والمياسرة بالقداح ، ويحسن ذلك لكم ، إرادة منه أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في شربكم الخمر ومياسرتكم بالقداح ، ليعادي بعضكم بعضا ، ويبغض بعضكم إلى بعض ، فيشتت أمركم بعد تأليف الله بينكم بالإيمان ، وجمعه بينكم بأخوة الإسلام "ويصدكم عن ذكر الله " ، يقول : ويصرفكم بغلبة هذه الخمر بسكرها إياكم عليكم ، وباشتغالكم بهذا الميسر عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم "وعن الصلاة " ، التي فرضها عليكم ربكم "فهل أنتم منتهون " ، [ ص: 566 ] يقول : فهل أنتم منتهون عن شرب هذه ، والمياسرة بهذا ، وعاملون بما أمركم به ربكم من أداء ما فرض عليكم من الصلاة لأوقاتها ، ولزوم ذكره الذي به نجح طلباتكم في عاجل دنياكم وآخرتكم؟ .
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية .
فقال بعضهم : نزلت بسبب كان من وهو أنه ذكر مكروه عاقبة شربها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسأل الله تحريمها . عمر بن الخطاب ،
ذكر من قال ذلك :
12512 - حدثنا قال ، حدثنا هناد بن السري ، عن وكيع ، إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة قال ، قال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا! قال : فنزلت الآية التي في"البقرة" : ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ) ، [ سورة البقرة : 219 ] . قال : فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا! فنزلت الآية التي في"النساء" : ( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) [ سورة النساء : 43 ] . قال : وكان منادي النبي صلى الله عليه وسلم ينادي إذا حضرت الصلاة : لا يقربن الصلاة السكران! قال : فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا! قال : فنزلت الآية التي في"المائدة" : يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس " إلى قوله : "فهل أنتم منتهون" . فلما انتهى إلى قوله : "فهل أنتم منتهون " قال " عمر : انتهينا انتهينا !!
[ ص: 567 ] 12513 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، حدثنا أبي ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة قال ، قال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فإنها تذهب بالعقل والمال! ثم ذكر نحو حديث وكيع .
[ ص: 568 ] 12514 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن زكريا ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة قال ، قال : اللهم بين لنا ، فذكر نحوه . عمر بن الخطاب
12515 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبيه وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، عن مثله . عمر بن الخطاب ،
12516 - حدثنا هناد قال ، حدثنا قال ، حدثنا يونس بن بكير ، زكريا بن أبي زائدة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، عن مثله . عمر بن الخطاب ،
12517 - حدثنا هناد قال ، حدثنا قال ، حدثني يونس بن بكير أبو معشر المدني ، عن محمد بن قيس ، قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، أتاه الناس وقد كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، فسألوه عن ذلك ، فأنزل الله تعالى : ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ) [ سورة البقرة : 219 ] ، فقالوا : هذا شيء قد جاء فيه رخصة ، نأكل الميسر ونشرب الخمر ، ونستغفر من ذلك! . حتى أتى رجل صلاة المغرب ، فجعل يقرأ : ( قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ) [ سورة الكافرون ] . فجعل لا يجوز ذلك ،
ولا يدري ما يقرأ ، فأنزل الله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) [ سورة النساء : 43 ] . فكان الناس يشربون الخمر ، حتى يجيء وقت الصلاة فيدعون شربها ، فيأتون الصلاة وهم يعلمون ما يقولون . فلم يزالوا كذلك حتى أنزل الله تعالى ذكره : "إنما [ ص: 569 ] الخمر والميسر والأنصاب والأزلام " إلى قوله : "فهل أنتم منتهون " ، فقالوا : انتهينا يا رب !
وقال آخرون : نزلت هذه الآية بسبب . وذلك أنه كان لاحى رجلا على شراب لهما ، فضربه صاحبه بلحيى جمل ، ففزر أنفه ، فنزلت فيهما . سعد بن أبي وقاص
ذكر الرواية بذلك :
12518 - حدثنا قال ، حدثنا محمد بن المثنى محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن ، عن سماك بن حرب مصعب بن سعد ، عن أبيه سعد أنه قال : صنع رجل من الأنصار طعاما ، فدعانا . قال : فشربنا الخمر حتى انتشينا ، فتفاخرت الأنصار وقريش ، فقالت الأنصار : نحن أفضل منكم! قال : فأخذ رجل من الأنصار لحيى جمل فضرب به أنف سعد ففزره ، فكان سعد أفزر الأنف . قال : فنزلت هذه الآية : "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر " إلى آخر الآية .
[ ص: 570 ] 12519 - حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص ، قال حدثنا شعبة ، عن سماك ، عن مصعب بن سعد قال ، سعد : شربت مع قوم من الأنصار ، فضربت رجلا منهم أظن بفك جمل فكسرته ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فلم ألبث أن نزل تحريم الخمر : " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر " ، إلى آخر الآية . قال
12520 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه قال : شربت الخمر مع قوم من الأنصار ، فذكر نحوه .
12521 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عمرو بن الحارث ، أن ابن شهاب أخبره ، أن حدثه : أن أول ما حرمت الخمر ، أن سالم بن عبد الله وأصحابا له شربوا فاقتتلوا ، فكسروا أنف سعد بن أبي وقاص سعد ، فأنزل الله : "إنما الخمر والميسر " ، الآية .
[ ص: 571 ] وقال آخرون : نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار .
ذكر من قال ذلك :
12522 - حدثنا الحسين بن علي الصدائي قال ، حدثنا حجاج بن المنهال قال ، حدثنا ربيعة بن كلثوم عن جبر ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا . حتى إذا ثملوا ، عبث بعضهم على بعض . فلما أن صحوا جعل الرجل منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول : فعل بي هذا أخي فلان ! وكانوا إخوة ، ليس في قلوبهم ضغائن ، والله لو كان بي رءوفا رحيما ما فعل بي هذا ! حتى وقعت في قلوبهم ضغائن ، فأنزل الله : "إنما الخمر والميسر " إلى قوله : "فهل أنتم منتهون"! فقال ناس من المتكلفين : رجس في بطن فلان قتل يوم بدر ، وقتل فلان يوم أحد ! فأنزل الله : [ سورة المائدة : 93 ] ، . الآية . [ ص: 572 ] ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا )
12523 - حدثنا محمد بن خلف قال ، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي ، عن أبي تميلة ، عن سلام مولى حفص بن أبي القاسم ، عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : بينما نحن قعود على شراب لنا ، [ ونحن على رملة ، ونحن ثلاثة أو أربعة ، وعندنا باطية لنا ] ، ونحن نشرب الخمر حلا إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه ، وقد نزل تحريم الخمر : " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان " ، إلى آخر الآيتين ، "فهل أنتم منتهون " ، فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله : "فهل أنتم منتهون"؟ قال : وبعض القوم شربته في يده ، قد شرب بعضا وبقي بعض في الإناء ، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام . ثم صبوا ما في باطيتهم ، فقالوا : انتهينا ربنا! انتهينا ربنا ! [ ص: 573 ]
وقال آخرون : إنما كانت العداوة والبغضاء ، كانت تكون بين الذين نزلت فيهم هذه الآية بسبب الميسر ، لا بسبب السكر الذي يحدث لهم من شرب الخمر . فلذلك نهاهم الله عن الميسر .
ذكر من قال ذلك :
12524 - حدثنا بشر قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا قال يزيد بن زريع بشر : وقد سمعته من يزيد وحدثنيه قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ، فيقعد حريبا سليبا ينظر إلى ماله في يدي غيره ، فكانت تورث بينهم عداوة وبغضاء ، فنهى الله عن ذلك وقدم فيه . والله أعلم بالذي يصلح خلقه . كان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله
[ ص: 574 ] قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال ، إن الله تعالى قد سمى هذه الأشياء التي سماها في هذه الآية " رجسا " ، وأمر باجتنابها .
وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية ، وجائز أن يكون نزولها كان بسبب دعاء عمر رضى الله عنه في أمر الخمر ، وجائز أن يكون ذلك كان بسبب ما نال سعدا من الأنصاري عند انتشائهما من الشراب ، وجائز أن يكون كان من أجل ما كان يلحق أحدهم عند ذهاب ماله بالقمار من عداوة من يسره وبغضه ، وليس عندنا بأي ذلك كان خبر قاطع للعذر . غير أنه أي ذلك كان فقد لزم حكم الآية جميع أهل التكليف ، وغير ضائرهم الجهل بالسبب الذي له نزلت هذه الآية . فالخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ، فرض على جميع من بلغته الآية من التكليف اجتناب جميع ذلك ، كما قال تعالى : " فاجتنبوه لعلكم تفلحون " .