قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وقال الله لبني إسرائيل : "إني معكم" ، يقول : إني ناصركم على عدوكم وعدوي الذين أمرتكم بقتالهم ، إن قاتلتموهم ووفيتم بعهدي وميثاقي الذي أخذته عليكم .
وفي الكلام محذوف ، استغني بما ظهر من الكلام عما حذف منه . وذلك أن معنى الكلام : وقال الله لهم إني معكم فترك ذكر "لهم" ، استغناء بقوله : "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل" ، إذ كان متقدم الخبر عن قوم مسمين بأعيانهم ، فكان معلوما أن ما في سياق الكلام من الخبر عنهم ، إذ لم يكن الكلام مصروفا عنهم إلى غيرهم .
ثم ابتدأ ربنا جل ثناؤه القسم فقال : قسما لئن أقمتم ، معشر بني إسرائيل ، الصلاة "وآتيتم الزكاة" ، أي : أعطيتموها من أمرتكم بإعطائها "وآمنتم برسلي" يقول : وصدقتم بما أتاكم به رسلي من شرائع ديني . [ ص: 119 ]
وكان الربيع بن أنس يقول : هذا خطاب من الله للنقباء الاثني عشر .
11578 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : أن موسى صلى الله عليه وسلم قال للنقباء الاثني عشر : سيروا إليهم يعني : إلى الجبارين فحدثوني حديثهم ، وما أمرهم ، ولا تخافوا إن الله معكم ما أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا .
قال أبو جعفر : وليس الذي قاله الربيع في ذلك ببعيد من الصواب ، غير أن من قضاء الله في جميع خلقه أنه ناصر من أطاعه ، وولي من اتبع أمره وتجنب معصيته وتحامى ذنوبه . فإذ كان ذلك كذلك ، وكان من طاعته إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، والإيمان بالرسل ، وسائر ما ندب القوم إليه كان معلوما أن تكفير السيئات بذلك وإدخال الجنات به . لم يخصص به النقباء دون سائر بني إسرائيل غيرهم . فكان ذلك بأن يكون ندبا للقوم جميعا ، وحضا لهم على ما حضهم عليه أحق وأولى من أن يكون ندبا لبعض وحضا لخاص دون عام .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : "وعزرتموهم" .
فقال بعضهم : تأويل ذلك : ونصرتموهم .
ذكر من قال ذلك :
11579 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "وعزرتموهم" قال : نصرتموهم . [ ص: 120 ]
11580 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
11581 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن قوله : "وعزرتموهم" قال : نصرتموهم بالسيف . السدي
وقال آخرون : هو الطاعة والنصرة .
ذكر من قال ذلك :
11582 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : سمعت عبد الرحمن بن زيد يقول في قوله : "وعزرتموهم" قال : "التعزيز" و"التوقير" ، الطاعة والنصرة .
واختلف أهل العربية في تأويله .
فذكر عن يونس [ الحرمري ] أنه كان يقول : تأويل ذلك : أثنيتم عليهم .
11583 - حدثت بذلك عن عنه . أبي عبيدة معمر بن المثنى
وكان أبو عبيدة يقول : معنى ذلك نصرتموهم ، وأعنتموهم ، ووقرتموهم وعظمتموهم ، وأيدتموهم ، وأنشد في ذلك :
وكم من ماجد لهم كريم ومن ليث يعزر في الندي
[ ص: 121 ] وكان الفراء يقول : "العزر" الرد "عزرته" ، رددته : إذا رأيته يظلم فقلت : "اتق الله" أو نهيته ، فذلك "العزر" .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب قول من قال : "معنى ذلك : نصرتموهم" . وذلك أن الله جل ثناؤه قال في"سورة الفتح" : ( إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه ) [ سورة الفتح : 8 ، 9 ] ف"التوقير" هو التعظيم . وإذ كان ذلك كذلك كان القول في ذلك إنما هو بعض ما ذكرنا من الأقوال التي حكيناها عمن حكينا عنه . وإذا فسد أن يكون معناه : التعظيم وكان النصر قد يكون باليد واللسان ، فأما باليد فالذب بها عنه بالسيف وغيره ، وأما باللسان فحسن الثناء ، والذب عن العرض صح أنه النصر ، إذ كان النصر يحوي معنى كل قائل قال فيه قولا مما حكينا عنه .
وأما قوله : "وأقرضتم الله قرضا حسنا" فإنه يقول : وأنفقتم في سبيل الله ، وذلك في جهاد عدوه وعدوكم "قرضا حسنا" يقول : وأنفقتم ما أنفقتم في سبيله ، فأصبتم الحق في إنفاقكم ما أنفقتم في ذلك ، ولم تتعدوا فيه حدود الله وما ندبكم إليه وحثكم عليه إلى غيره .
فإن قال لنا قائل : وكيف قال : "وأقرضتم الله قرضا حسنا" ولم يقل : "إقراضا حسنا " ، وقد علمت أن مصدر "أقرضت" "الإقراض"؟
قيل : لو قيل ذلك كان صوابا ، ولكن قوله : "قرضا حسنا" أخرج [ ص: 122 ] مصدرا من معناه لا من لفظه . وذلك أن في قوله : "أقرض" معنى"قرض" ، كما في معنى"أعطى" "أخذ" . فكان معنى الكلام : وقرضتم الله قرضا حسنا ، ونظير ذلك : ( والله أنبتكم من الأرض نباتا ) [ سورة نوح : 17 ] إذ كان في "أنبتكم" معنى : "فنبتم" ، وكما قال امرؤ القيس :
ورضت فذلت صعبة أي إذلال
إذ كان في"رضت" معنى"أذللت" ، فخرج"الإذلال" مصدرا من معناه لا من لفظه .