القول في تأويل قوله ( فكلوا مما أمسكن عليكم )
قال أبو جعفر : يعني بقوله : " فكلوا مما أمسكن عليكم " ، فكلوا ، أيها الناس ، مما أمسكت عليكم جوارحكم .
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك .
فقال بعضهم : ذلك على الظاهر والعموم كما عممه الله ، حلال أكل كل ما أمسكت علينا الكلاب والجوارح المعلمة من الصيد الحلال أكله ، أكل منه الجارح والكلاب أو لم يأكل منه ، أدركت ذكاته فذكي أو لم تدرك ذكاته حتى قتلته الجوارح بجرحها إياه أو بغير جرح .
[ ص: 567 ]
وهذا قول الذين قالوا : " أن تعلم الاستشلاء على الصيد ، وطلبه إذا أشليت عليه ، وأخذه ، وترك الهرب من صاحبها ، دون ترك الأكل من صيدها إذا صادته" . وقد ذكرنا قول قائلي هذه المقالة والرواية عنهم بأسانيدها الواردة آنفا . تعليم الجوارح الذي يحل به صيدها
وقال آخرون : بل ذلك على الخصوص دون العموم . قالوا : ومعناه : فكلوا مما أمسكن عليكم من الصيد جميعه دون بعضه . قالوا : فإن أكلت الجوارح منه بعضا وأمسكت بعضا ، فالذي أمسكت منه غير جائز أكله وقد أكلت بعضه ، لأنها إنما أمسكت ما أمسكت من ذلك الصيد بعد الذي أكلت منه ، على أنفسها لا علينا ، والله تعالى ذكره إنما أباح لنا كل ما أمسكته جوارحنا المعلمة علينا بقوله : " فكلوا مما أمسكن عليكم " ، دون ما أمسكته على أنفسها . وهذا قول من قال : " تعليم الجوارح الذي يحل به صيدها : أن تستشلي للصيد إذا أشليت ، فتطلبه وتأخذه ، فتمسكه على صاحبها فلا تأكل منه شيئا ، ولا تفر من صاحبها" . وقد ذكرنا ممن قال ذلك فيما مضى منهم جماعة كثيرة ونذكر منهم جماعة أخر في هذا الموضع .
11212 - حدثنا المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " فكلوا مما أمسكن عليكم " ، يقول : كلوا مما قتلن قال علي : وكان ابن عباس يقول : إن قتل وأكل فلا تأكل ، وإن أمسك فأدركته حيا فذكه .
11213 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : [ ص: 568 ] حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن أكل المعلم من الكلاب من صيده قبل أن يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته ، فلا يأكل من صيده .
11214 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن : " السدي فكلوا مما أمسكن عليكم " ، إذا صاد الكلب فأمسكه وقد قتله ولم يأكل منه ، فهو حل . فإن أكل منه ، فيقال : إنما أمسك على نفسه . فلا تأكل منه شيئا ، إنه ليس بمعلم .
11215 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : "يسألونك ماذا أحل لهم" إلى قوله : "فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه" ، قال : إذا أرسلت كلبك المعلم أو طيرك أو سهمك ، فذكرت اسم الله ، فأخذ أو قتل ، فكل .
11216 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول : إذا أرسلت كلبك المعلم فذكرت اسم الله حين ترسله ، فأمسك أو قتل ، فهو حلال . فإذا أكل منه فلا تأكله ، فإنما أمسكه على نفسه .
11217 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ، عن الشعبي ، عن عدي قوله : "فكلوا مما أمسكن عليكم" ، قال : قلت يا رسول الله ، إن أرضي أرض صيد ؟ قال : . [ ص: 569 ] "إذا أرسلت كلبك وسميت ، فكل مما أمسك عليك كلبك وإن قتل . فإن أكل فلا تأكل ، فإنه إنما أمسك على نفسه
وقد بينا أولى القولين في ذلك بالصواب قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته وتكراره .
فإن قال قائل : وما وجه دخول"من" ، في قوله : " فكلوا مما أمسكن عليكم " ، وقد أحل الله لنا صيد جوارحنا الحلال ، و"من" إنما تدخل في الكلام مبعضة لما دخلت فيه ؟
قيل : قد اختلف في معنى دخولها في هذا الموضع أهل العربية .
فقال بعض نحويي البصرة : دخلت"من" في هذا الموضع لغير معنى ، كما تدخله العرب في قولهم : "كان من مطر" و"كان من حديث" . قال : ومن ذلك قوله : ( ويكفر عنكم من سيئاتكم ) [ سورة البقرة : 271 ] ، وقوله : ( وينزل من السماء من جبال فيها من برد ) [ سورة النور : 43 ] ، قال : وهو فيما فسر : وينزل من السماء جبالا فيها برد . قال : وقال بعضهم : و" وينزل من السماء من جبال فيها من برد " ، أي : من السماء من برد ، بجعل"الجبال من برد" في السماء ، وبجعل الإنزال منها .
وكان غيره من أهل العربية ينكر ذلك ويقول : لم تدخل"من" إلا لمعنى مفهوم ، لا يجوز الكلام ولا يصلح إلا به . وذلك أنها دالة على التبعيض . وكان يقول : معنى قولهم"قد كان من مطر" و"كان من حديث"; هل كان من مطر مطر عندكم ؟ وهل من حديث حدث عندكم ؟ ويقول : معنى : ( ويكفر عنكم من سيئاتكم ) ، أي : ويكفر عنكم من سيئاتكم ما يشاء ويريد وفي قوله : ( وينزل من السماء من جبال فيها من برد ) ، فيجيز [ ص: 570 ] حذف"من" من "من برد" ولا يجيز حذفها من"الجبال" ، ويتأول معنى ذلك : وينزل من السماء أمثال جبال برد ، ثم أدخلت"من" في"البرد" ، لأن"البرد" مفسر عنده من"الأمثال" أعني : "أمثال الجبال" ، وقد أقيمت "الجبال" مقام"الأمثال" ، و"الجبال" وهي"جبال برد" فلا يجيز حذف"من" من"الجبال" ، لأنها دالة على أن الذي في السماء الذي أنزل منه البرد ، أمثال جبال برد . وأجاز حذف"من" من "البرد" ، لأن"البرد" مفسر عن"الأمثال" ، كما تقول : "عندي رطلان زيتا" و"عندي رطلان من زيت" ، وليس عندك"الرطل" ، وإنما عندك المقدار . ف"من" تدخل في المفسر وتخرج منه . وكذلك عند قائل هذا القول : من السماء ، من أمثال جبال ، وليس بجبال . وقال : وإن كان : "أنزل من جبال في السماء من برد جبالا" ، ثم حذف"الجبال" الثانية ، و"الجبال" الأول في السماء ، جاز . تقول : "أكلت من الطعام" ، تريد : أكلت من الطعام طعاما ، ثم تحذف"الطعام" ولا تسقط"من" .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك : أن"من" لا تدخل في الكلام إلا لمعنى مفهوم ، وقد يجوز حذفها في بعض الكلام وبالكلام إليها حاجة ، لدلالة ما يظهر من الكلام عليها . فأما أن تكون في الكلام لغير معنى أفادته بدخولها ، فذلك قد بينا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون فيما صح من الكلام .
ومعنى دخولها في قوله : " فكلوا مما أمسكن عليكم " ، للتبعيض ، إذ كانت الجوارح تمسك على أصحابها ما أحل الله لهم لحومه ، وحرم عليهم فرثه ودمه ، فقال جل ثناؤه : "فكلوا" مما أمسكت عليكم جوارحكم الطيبات التي أحللت [ ص: 571 ] لكم من لحومها ، دون ما حرمت عليكم من خبائثه من الفرث والدم وما أشبه ذلك ، مما لم أطيبه لكم . فذلك معنى دخول"من" في ذلك .
وأما قوله : ( ويكفر عنكم من سيئاتكم ) ، فقد بينا وجه دخولها فيه فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته .
وأما دخولها في قوله : ( وينزل من السماء من جبال ) ، فسنبينه إذا أتينا عليه إن شاء الله . .