قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يسألك ، يا محمد ، أصحابك : ما الذي أحل لهم أكله من المطاعم والمآكل ؟ فقل لهم : أحل لكم منها "الطيبات" ، وهي الحلال الذي أذن لكم ربكم في أكله من الذبائح وأحل لكم أيضا مع ذلك ، صيد ما علمتم من"الجوارح" ، وهن الكواسب من سباع البهائم .
والطير سميت"جوارح" ، لجرحها لأربابها ، وكسبها إياهم أقواتهم من الصيد . يقال منه : "جرح فلان لأهله خيرا" ، إذا أكسبهم خيرا ، و"فلان جارحة أهله" ، يعني بذلك : كاسبهم ، و"لا جارحة لفلانة" ، إذا لم يكن لها كاسب ومنه قول أعشى بني ثعلبة .
ذات حد منضج ميسمها تذكر الجارح ما كان اجترح
[ ص: 544 ]يعني : اكتسب .
وترك من قوله : "وما علمتم" ، "وصيد" ما علمتم من الجوارح ، اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام على ما ترك ذكره .
[ ص: 545 ]
وذلك أن القوم ، فيما بلغنا ، كانوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بقتل الكلاب ، عما يحل لهم اتخاذه منها وصيده ، فأنزل الله عز ذكره فيما سألوا عنه من ذلك هذه الآية . فاستثنى مما كان حرم اتخاذه منها ، وأمر بقنية كلاب الصيد وكلاب الماشية ، وكلاب الحرث ، وأذن لهم باتخاذ ذلك .
ذكر الخبر بذلك :
11134 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا قال : حدثنا زيد بن حباب العكلي موسى بن عبيدة قال : أخبرنا أبان بن صالح ، عن القعقاع بن حكيم ، عن سلمى أم رافع ، عن أبي رافع قال : جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن عليه ، فأذن له فقال : قد أذنا لك يا رسول الله! قال : أجل ، ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب! قال أبو رافع : فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة ، فقتلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها ، فتركته رحمة لها ، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته . فجاءوا فقالوا : يا رسول الله ، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : " يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين " . جاء
[ ص: 546 ]
11135 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ، عن ابن جريج عكرمة : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب ، فقتل حتى بلغ العوالي فدخل عاصم بن عدي ، وسعد بن خيثمة ، وعويم بن ساعدة ، فقالوا : ماذا أحل لنا يا رسول الله ؟ فنزلت : "يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين" .
11136 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن الزبير قال : حدثونا عن قال : محمد بن كعب القرظي ، الآية . لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ، قالوا : يا رسول الله ، فماذا يحل لنا من هذه الأمة ؟ فنزلت : "يسألونك ماذا أحل لهم"
[ ص: 547 ]
ثم اختلف أهل التأويل في"الجوارح" التي عنى الله بقوله : " وما علمتم من الجوارح " .
فقال بعضهم : هو كل ما علم الصيد فتعلمه ، من بهيمة أو طائر .
ذكر من قال ذلك :
11137 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا ابن المبارك ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن في قوله : " وما علمتم من الجوارح مكلبين " ، قال : كل ما علم فصاد ، من كلب أو صقر أو فهد أو غيره .
11138 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن فضيل ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن : "مكلبين" ، قال : كل ما علم فصاد من كلب أو فهد أو غيره .
11139 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في صيد الفهد قال : هو من الجوارح .
11140 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله : " وما علمتم من الجوارح مكلبين " ، قال : الطير والكلاب .
11141 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن الحجاج ، عن عطاء ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد ، مثله .
11142 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ابن عيينة ، عن حميد ، عن مجاهد : " مكلبين " ، قال : من الكلاب والطير .
11143 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : "من الجوارح مكلبين " ، قال : من الطير والكلاب .
11144 - حدثنا المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
[ ص: 548 ]
11145 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا قال : حدثنا ابن علية شعبة ح ، وحدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن شعبة ، عن الهيثم ، عن طلحة بن مصرف قال : قال خيثمة بن عبد الرحمن : هذا ما قد بينت لك : أن الصقر والبازي من الجوارح .
11146 - حدثنا قال : حدثنا محمد بن المثنى محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة قال : سمعت الهيثم يحدث ، عن طلحة الإيامي ، عن قال : بينت لك : أن الصقر والباز والكلب من الجوارح . خيثمة
11147 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن علي بن حسين قال : الباز والصقر من الجوارح .
11148 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن شريك ، عن جابر ، عن أبي جعفر قال : الباز والصقر من"الجوارح المكلبين" . .
11149 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "وما علمتم من الجوارح مكلبين" ، يعني ب "الجوارح" ، الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها .
11150 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : " وما علمتم من الجوارح مكلبين " ، قال : من الكلاب ، وغيرها من الصقور والبيزان وأشباه ذلك مما يعلم .
[ ص: 549 ]
11151 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وما علمتم من الجوارح مكلبين " ، الجوارح : الكلاب والصقور المعلمة .
11152 - حدثني سعيد بن الربيع الرازي قال : حدثنا سفيان ، عن سمع عمرو بن دينار ، يقول في قوله : "من الجوارح مكلبين " ، قال : الكلاب والطير . عبيد بن عمير
وقال آخرون : إنما عنى الله جل ثناؤه بقوله : " وما علمتم من الجوارح مكلبين " ، الكلاب دون غيرها من السباع .
ذكر من قال ذلك :
11153 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا أبو تميلة قال : حدثنا عبيد ، عن الضحاك : " وما علمتم من الجوارح مكلبين " ، قال : هي الكلاب .
11154 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن قوله : " السدي وما علمتم من الجوارح مكلبين " ، يقول : أحل لكم صيد الكلاب التي علمتوهن .
11155 - حدثنا هناد قال : حدثنا ابن أبي زائدة قال : أخبرنا ، عن ابن جريج نافع ، عن ابن عمر ، قال : أما ما صاد من الطير والبزاة من الطير فما أدركت فهو لك ، وإلا فلا تطعمه .
قال أبو جعفر : وأولى القولين بتأويل الآية قول من قال : "كل ما صاد من الطير والسباع فمن الجوارح ، وأن صيد جميع ذلك حلال إذا صاد بعد التعليم" ، [ ص: 550 ] لأن الله جل ثناؤه عم بقوله : " وما علمتم من الجوارح مكلبين " ، كل جارحة ، ولم يخصص منها شيئا . فكل"جارحة" ، كانت بالصفة التي وصف الله من كل طائر وسبع ، فحلال أكل صيدها .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ما قلنا في ذلك خبر ، مع ما في الآية من الدلالة التي ذكرنا على صحة ما قلنا في ذلك ، وهو ما : -
11156 - حدثنا به هناد قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال : ما أمسك عليك فكل . عن
[ ص: 551 ]
فأباح صلى الله عليه وسلم صيد البازي وجعله من الجوارح . ففي ذلك دلالة بينة على فساد قول من قال : "عنى الله بقوله : "وما علمتم من الجوارح" ، ما علمنا من الكلاب خاصة ، دون غيرها من سائر الجوارح" .
فإن ظن ظان أن في قوله : " مكلبين " ، دلالة على أن الجوارح التي ذكرت في قوله : "وما علمتم من الجوارح " ، هي الكلاب خاصة ، فقد ظن غير الصواب .
وذلك أن معنى الآية : قل أحل لكم ، أيها الناس ، في حال مصيركم أصحاب كلاب الطيبات ، وصيد ما علمتوه الصيد من كواسب السباع والطير . فقوله : " مكلبين " ، صفة للقانص ، وإن صاد بغير الكلاب في بعض أحيانه . وهو نظير قول القائل يخاطب قوما : " أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين مؤمنين " . فمعلوم أنه إنما عنى قائل ذلك ، إخبار القوم أن الله جل ذكره أحل لهم ، في حال كونهم أهل إيمان ، الطيبات وصيد الجوارح التي أعلمهم أنه لا يحل لهم منه إلا ما صادوه به فكذلك قوله : " أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين " لذلك نظيره ، في أن التكليب للقانص بالكلاب كان صيده أو بغيرها لا أنه إعلام من الله عز ذكره أنه لا يحل من الصيد إلا ما صادته الكلاب .