الثاني : اتقوا قبل التحريم في غيرها من المحرمات ، ثم اتقوا بعد تحريمها شربها ، ثم اتقوا في الذي بقي من أعمارهم ، فاجتنبوا العمل المحرم .
الثالث : اتقوا الشرك ، وآمنوا ، ثم اتقوا الحرام ، ثم اتقوا ترك الإحسان ، فيعبدون الله ، وإن لم يروه كأنهم يرونه . وقد صرفت فيها أقوال على قدر وظائف الشريعة يكثر تعدادها ، وأشبهها بالقرآن والسنة ما رواه عن الدارقطني : أن الشراب كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : بالأيدي والنعال وبالعصي حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا في خلافة ابن عباس أكثر منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبي بكر يجلدهم أربعين حتى توفي ، فكان أبو بكر من بعده يجلدهم كذلك أربعين ، ثم أتي برجل من عمر المهاجرين الأولين وقد شرب ، فأمر به أن يجلد ، فقال : أتجلدني ، بيني وبينك كتاب الله " . فقال : " أفي كتاب الله تجد ألا أجلدك ؟ " فقال : إن الله تعالى يقول : { عمر ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية ; فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ، شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها . فقال : " ألا تردون عليه ما يقول " ؟ فقال عمر : إن هذه الآيات أنزلت [ ص: 168 ] عذرا لمن صبر وحجة على الناس ; لأن الله تعالى يقول : { ابن عباس يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } الآية ، ثم قرأ حتى أنفذ الآية الأخرى ; فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإن الله تعالى قد نهاه أن يشرب الخمر . فقال : " صدقت ، ماذا ترون " ؟ فقال عمر : " إنه إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وعلى المفتري جلد ثمانين " . [ فأمر به علي فجلد ثمانين جلدة ] . عمر
وروى عن البخاري عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قال : استعمل عمر على قدامة بن مظعون البحرين ، وقد كان يشهد بدرا ، وهو خال ابن عمر وحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ; زاد : فقدم البرقاني الجارود من البحرين ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن قد شرب مسكرا ، وإني إذا رأيت حدا من حدود الله تعالى حق علي أن أرفعه إليك . فقال له قدامة بن مظعون : " من يشهد لي على ما تقول ؟ " فقال : عمر . فدعا أبو هريرة عمر فقال : " علام تشهد يا أبا هريرة " ؟ فقال : " لم أره حين شرب ، وقد رأيته سكران يقيء " . فقال أبا هريرة : " لقد تنطعت في الشهادة " . ثم كتب عمر إلى عمر قدامة وهو بالبحرين يأمره بالقدوم عليه . فلما قدم قدامة والجارود بالمدينة كلم الجارود ، فقال له : أقم على هذا كتاب الله فقال عمر عمر للجارود : " أشهيد أنت أم خصم " ؟ فقال الجارود : أنا شهيد . قال : " قد كنت أديت الشهادة " . فسكت الجارود ، ثم قال : لتعلمن أني أنشدك الله . فقال : " أما والله لتملكن لسانك أو لأسوءنك " . فقال عمر الجارود : أما والله ما ذلك بالحق أن يشرب ابن عمك وتسوءني : فتوعده . فقال عمر وهو جالس : " يا أمير المؤمنين ، إن كنت تشك في شهادتنا فسل أبو هريرة بنت الوليد امرأة ابن مظعون " . فأرسل إلى عمر هند ينشدها بالله ، فأقامت هند على زوجها قدامة الشهادة . فقال : " يا عمر قدامة ; إني جالدك " . فقال قدامة : والله لو شربت كما تقولون ما كان لك أن تجلدني يا . قال : " لم يا عمر قدامة ؟ " قال : لأن [ ص: 169 ] الله سبحانه يقول : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية إلى : { المحسنين } . فقال : " إنك أخطأت التأويل يا عمر قدامة ; إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله " . ثم أقبل على القوم فقال : " ما ترون في جلد عمر قدامة ؟ " فقال القوم : لا نرى أن تجلده ما دام وجعا ، فسكت عن جلده أياما ، ثم أصبح يوما وقد عزم على جلده ، فقال لأصحابه : " ما ترون في جلد عمر قدامة ؟ " فقالوا : لا نرى أن تجلده ما دام وجعا . فقال : " إنه والله لأن يلقى الله وهو تحت السوط أحب إلي من أن ألقى الله وهي في عنقي ، والله لأجلدنه ، ائتوني بسوط " . فجاء مولاه عمر بسوط رقيق صغير ، فأخذه أسلم فمسحه بيده ، ثم قال عمر لأسلم : " قد أخذتك بإقرار أهلك ، ائتوني بسوط غير هذا " . قال : فجاءه بسوط تام ، فأمر أسلم عمر بقدامة فجلد ، فغاضب قدامة وهجره ، فحجا عمر وقدامة مهاجر ، حتى قفلوا من حجهم ، ونزل لعمر عمر بالسقيا وقام بها ; فلما استيقظ قال : " عجلوا علي عمر بقدامة ، انطلقوا فأتوني به ، فوالله إني لأرى في النوم أنه جاءني آت فقال لي : سالم قدامة فإنه أخوك " . فلما جاءوا قدامة أبى أن يأتيه ; فأمر عمر بقدامة أن يجر إليه جرا حتى كلمه واستغفر له ، فكان أول صلحهما . عمر
فهذا يدلك على تأويل الآية ، وما ذكر فيه عن في حديث ابن عباس الدارقطني في حديث وعمر ، وهو صحيح . وبسطه أنه لو كان البرقاني لا يحد على الخمر ما حد أحد ، فكان هذا من أفسد تأويل ، وقد خفي على من شرب الخمر واتقى الله في غيره قدامة ، وعرفه من وفقه الله له كعمر ، والله أعلم . وابن عباس
وإن حراما لا أرى الدهر باكيا على شجوه إلا بكيت على عمر